تتطلب معالجة موضوع الارهاب التوقف بين أمرين؛
الأمر الأول هو التمييز بين الارهاب والعنف. والأمر الثاني هو تحديد العلاقة بين التطرف والارهاب.
بالنسبة للأمر الأول، من المهم التأكيد على انه ليس كل عمل عنف هو عمل ارهابي. ولكن كل عمل ارهابي هو بالتأكيد عمل عنفي.
الارهابي غير معني بالضحية المباشرة لجريمته. هو لا يعرف الضحية ولا يكترث لها. الضحية عنده هي مجرد صندوق بريد لإيصال رسالة ترهب طرفاً ثالثاً. من أجل ذلك فان عقل الارهابي يصنع بحيث تصبح الضحية البريئة هذه مجرد اداة مشروعة لتوصيل رسالة يعتقد انه بادائها يتقرب من الله ويكسب مرضاته. وهذا أبشع أنواع الإجرام. أما العنف فانه يستهدف الضحية لذاتها. وغالباً ما تكون الضحية معروفة من المرتكب. وهو معروف منها. وكذلك فان أسباب ارتكاب جريمة العنف تكون معروفة من الجاني ومن المجني عليه.
لذلك فان هذه الجريمة هي جريمة شخصية يعاقب عليها القانون. أما جريمة الارهاب فانها جريمة ضد الانسانية، ليس فقط بموجب القانون، ولكن فوق ذلك، بموجب الشريعة الاسلامية. فالجريمة هذه لا تتوسل الاعتداء على انسان بريء أو على جماعة من الأبرياء فقط، ولكنها تستهدف ارهاب أمة كاملة أو حتى مجموعة من الامم، مما يجعلها جريمة جماعية، وتالياً جريمة ضد الانسانية. وقد حدد هذه المعاني القرآن الكريم بقوله:» من قتل نفساً أي انسان واحد- بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً«(1) .
وبالنسبة للأمر الثاني (العلاقة بين التطرف والارهاب)، من المهم التأكيد أولاً على ان التطرف ليس دينياً فقط. وتالياً ليس اسلامياً فقط. هناك تطرف رأسمالي جشع وصفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بالرأسمالية المتوحشة. وهناك تطرف شيوعي علماني الغائي حتى للعزة الإلهية تمثل في تحويل الكنائس والمساجد الى كاراجات وأندية واسطبلات. وهناك تطرف علماني يبيح ويشرعن زواج المثليين رجالاً ونساءً وتشكيل عائلة من هذا الزواج. أما في الدائرة الدينية فهناك تطرف مسيحي يتمثل في الحركة الصهيونية المسيحانية. وفي اليونان تستقل الكنيسة الأرثوذكسية في جبل آفوس استقلالاً داخلياً كاملاً. وهناك تطرف يهودي يتمثل في العديد من المنظمات والحركات اليهودية داخل اسرائيل وخارجها والتي تحول اسرائيل من كيان صهيوني علماني الى كيان ديني يهودي لا يقبل بأي مواطن غير يهودي. وهناك تطرف هندوسي يهدد الديمقراطية في الهند. وهناك تطرف بوذي يهدد الوحدة الوطنية في تايلند وماينمار وسواهما. وهناك التطرف الاسلامي الذي نحن بصدده اليوم والذي يعمل على تخريب بيتنا الداخلي .
ان التطرف حالة فكرية احتكارية للحقيقة والغائية للآخر المختلف. كل حركات التطرف التي عرفها العالم توسلت الارهاب اداة لها. من الشيوعية الى النازية والفاشية. ومن منظمة الجيش الأحمر في اليابان الى منظمة بادرماينهوف في ألمانيا. ومن الخمير الحمر في كمبوديا الى منظمة شترن والهاغانا في اسرائيل.. الخ. ولذلك فان الارهاب ليس انساناً.. انه وجهة نظر.
يمكن قتل الارهابي كما قتل ابن لادن وغيره. ويمكن زجّه في غياهب السجون، وما أكثرها، من غوانتنامو الى أبو غريب، مروراً بالمزة .
ولكن لا يمكن قتل وجهة النظر أو سجنها. يمكن فقط تفكيكها وتسفيه معانيها وتبديد مبانيها. ويمكن تالياً القضاء عليها بالمنطق والمعرفة.. وبالتربية الدينية.
الارهابي مخلوق قادم من عالم مختلف. الا انه في الوقت ذاته من لحم ودم. هو فرد من افراد شعبنا. يأكل من صحوننا ويمشي في شوارعنا. ولكنه يرى بعينيه ما لا نراه نحن. ويسمع بأذنيه ما لا نسمعه. ويسعى بقدميه الى ما لا يخطر على قلب بشر.
عندما يفجر نفسه في سيارة ملغومة أو بواسطة حزام ناسف، يعرف انه سوف يتحول الى أشلاء. ويعرف أن ضحاياه من الأبرياء سوف يتحولون معه الى أشلاء أيضاً. ويعرف ان هذا العمل سوف يترك وراءه عائلات ثكلى ومنكوبة : يتامى وأرامل وعاجزين ومشوهين من الأبرياء.. ولكنه يعرف شيئاً آخر لا نُقرّه نحن.
وهو ان هذا العمل الفظيع والمروع هو بطاقة دخوله الى الجنة. ولذلك يقدم عليه بحبّ وشوق. الأمر الذي يطرح السؤال المهم التالي : من هم الذين غسلوا دماغه وأقنعوه بهذا الإيمان المتوحش، وكيف؟.
تخيل علماء وأدباء وسينمائيون وجود مخلوقات غريبة قدمت الى عالمنا من كواكب بعيدة. وصاغوا حولها الحكايات والقصص وصنعوا الأفلام المشوقة. ولكن هذا المخلوق الغريب الذي ينبثق من داخل مجتمعنا والذي نصفه بالارهابي، لم يحظَ بما يستحقه الخطر الذي يمثله، من اهتمام علمي ومن جهد تربوي ومن مراجعة دينية حتى بلغ من الجرأة ان نصب نفسه خليفة على الأمة !! لقد اعتقدنا ان القضاء عليه يكون بسلاحه، أي بالقتل. ولكن القتل بالنسبة اليه هو بعث جديد.. هو يعتقد انه بقتله يسلك طريقاً مختصراً الى الجنة (قادومية). والتجربة أثبتت ان قطع ذراع الارهاب بارهاب معاكس، يفرخ أذرعاً ارهابية عديدة. وهكذا، بعد قطع ذراع القاعدة بمقتل ابن لادن، نبت ذراع للقاعدة في المغرب العربي، وذراع في جزيرة العرب، وذراع في بلاد الرافدين، وأخرى في سورية.. وتُنبّت الآن أذرع جديدة في الهند، وفي مجتمعات أخرى.
في القرون الوسطى كانت الكنيسة تقدم صكوك الغفران بطاقات دخول الى الجنة. لم يتغير شيء اليوم. هناك منظمات تدّعي الاسلام تقدم مثل هذه البطاقات ملصقة على عبوة ناسفة مزروعة إما تحت الحذاء أو حتى في الملابس الداخلية لامرأة محجبة. وتحمل توقيع وخاتم الخليفة.
الإيمان درجات. كالمحبة. أحب الناس الى الله أنفعهم لعياله. و»أن أكرمكم عند الله أتقاكم«.
والإيمان عند الارهابيين درجات كذلك. فكلما كان عدد ضحايا العمل الارهابي أكثر، يعتقد الارهابي انه سيكون في منزلة «أفضل» عند الله.. وان موقعه في الجنة سيكون أعلى واسمى. هكذا أقنعوه. وهكذا صنعوا منه قنبلة بشرية موقوته. ولهذا فقدَ آدميته، وأصبح في جوهر كيانه مخلوقاً آخر، وكأنه قادم من عالم آخر.. نحن نطلق عليه عالم الارهاب، وهو مصنوع ليؤمن بان عالمه هو عالم السلام والحق والرضى الإلهي .
هذا الكائن الارهابي أكثر ما يكون مخيفاً عندما يؤمن بأنه اذا مزّق جسده مع أجساد البشر الأبرياء فانه لا ينصهر في نار جهنم ولكنه يذوب في الحضرة الإلهية. وأي سعادة انسانية أسمى من سعادة هذا الذوبان ؟ أو من سعادة الشعور بتحقيقه؟
لم تسمم الحركات الارهابية العلاقات بين الدول، ولكنها سممت عقول الأفراد والجماعات. العلاقات بين الدول تسوّى وتصحّح، ولكن صناعة العقول على الكراهية والعدوانية وعلى الرفض الالغائي للآخر أمر آخر.
تعترف الولايات المتحدة انها أنفقت اربعة الاف مليار دولار في الحرب على الارهاب. ولكن النتيجة لم تكن إلا المزيد من الارهاب؟. وتقدر تكاليف المرحلة الحالية من هذه الحرب بـ 2،5 مليار دولار سنوياً، ولا شيء يضمن ان تكون النتيجة أفضل. ان نموذج ارهاب طالبان لا يزال ماثلاً يجثو بكلكه فوق صدورنا، وقد استدرج الى الشرق الأوسط ليس بفكره فقط، انما ببعض عناصره ايضاً .
ان القدرة على الخروج من كهوف تورابورا المظلمة في مجاهل أفغانستان الى برجي التجارة العالمية المتلألأة في نيويورك، تؤكد أمراً أساسياً وجوهرياً، وهو ان الارهاب ليس قوياً بإمكاناته المادية أو العسكرية أو المالية، ولكنه قوي بقدرته على صناعة كائنات غريبة، لا هي تخجل من ظلام الكهوف.. ولا يبهرها وهج ناطحات السحاب.. هذه الكائنات تصنع بحيث تُجرد من آدميتها، وبحيث تعتقد انها بالارهاب تحمل رسالة الله وتستنير بنوره. وهي في الحقيقة تهوي في «ثقب أسود» لا قرار له.
من هنا، فان ما يقوم به الارهابيون ليس تطرفاً، وليس دينياً، وبالتالي ليس اسلامياً. انه منطق مختلف، وهو منطق لا يمتّ الى أي دين بصلة. يمكن معالجة التطرف بالمنطق وبالحكمة والموعظة الحسنة، وبتوضيح الصحيح من العقيدة لتقويم السلوك المعوج. ولكن المنطق المختلف حالة أخرى مختلفة تماماً، عصية على العلاج.
من الممكن، بالعلم والمنطق، اقناع من يعتقد ان مجموع 2+2 يساوي خمسة، بأنه على خطأ. ولكن كيف يمكن اقناع من يؤمن بان مجموع 2+2 يساوي 97، بأنه على خطأ؟ انه ليس خطأ، كما قال الفيلسوف النمساوي ليشنشتيان، ولكنه منطق مختلف.
ليست الثقافة الالغائية للآخر على أساس ديني هي المصدر الوحيد للارهاب. فالارهاب له من يرعاه. وله من يموّله، وله من يوظفه في استراتيجيات بعيدة المدى. ولذلك فانه يقوم على مثلث متساوي الاضلاع فكراً وتمويلاً ورعاية.
إن تجفيف مصادر الارهاب مالياً ورعائياً، والكشف عن مستغليه وعن مستثمريه في مشاريع سياسية تستهدف تدمير مجتمعاتنا الشرقية بما تتسم به من تعددية دينية ومذهبية وعرقية، يتلازم بالضرورة مع ضرورة العمل على تجفيف مصادره الثقافية والتربوية، وتحديداً من خلال التربية على صحيح الدين والعقيدة .
لا تشكو بعض مجتمعات المسلمين من اتساع الجهل ومن ارتفاع نسبة الأمية فقط، ولكنها تشكو أكثر من عمق التجهيل التضليلي. وأسوأ وأخطر ما في هذا التجهيل انه يصب في استراتيجيات خارجية تستهدف تشويه صورة الاسلام وتمزيق مجتمعاته وشرذمة دوله .
فالاسلام عندما يقول بالكرامة الانسانية، فان ذلك يعني ان الكرامة هي للذات الانسانية بصرف النظر عن الدين والمعتقد وعن اللون والجنس والعنصر. وبصرف النظر حتى عما اذا كان الانسان مؤمناً أو غير مؤمن. لقد خلق الله الناس جميعاً من نفس واحدة، وخلقهم مختلفين، وأرادهم أن يكونوا مختلفين، ولكنه دعاهم الى التعارف. والمدخل الى التعارف هو الحوار بمعنى الاعتراف بالآخر المختلف واحترامه، وليس الارهاب بمعنى رفض الآخر والعمل على إلغائه .
والاسلام عندما يحرّم قتل النفس الانسانية البريئة، وعندما يصنف هذا القتل بأنه جريمة ضد الانسانية جمعاء، كما أشرنا الى ذلك سابقاً، فانه لا يحصر النفس الانسانية بالمسلمين ولا حتى بالمؤمنين برسالات السماء، ولكنه يطلقها عامة لتشمل الناس جميعاً.
والاسلام عندما يرسي قاعدة « لا تزر وازرة وزر أخرى» فانه يؤكد على مبدأ العدالة الذي يقوم على أساس ان كل انسان بريء حتى تثبت ادانته. وانه لا يجوز معاقبة انسان بريء على جرم ارتكبه انسان آخر. فكيف اذا كان الانسان هدفاً لعدوان بسبب جرم لم يرتكبه لا هو ولا أي انسان آخر على النحو الذي يمارسه الارهابيون في سوريا والعراق وفي ليبيا واليمن وفي أفغانستان والباكستان، كما حدث للمدرسة في بشاور منذ أيام؟.
لقد وصف النبي محمد عليه الصلاة والسلام المسلم بانه «من سلم الناس من يده ولسانه«. أي من سلِم كل الناس من يده ولسانه. ومن هذا التعميم، هناك تخصيص لأهل الكتاب، ولا سيما المسيحيين منهم. فبموجب عهدة النبي عليه السلام لمسيحيي نجران، فان النبي لم يتعهد لهم بالحماية وباحترام شعائرهم ومقدساتهم فقط وهو النبي وليس الخليفة ولا مدّعي الخلافة-، ولكنه خصّهم، وفي مقدمتهم القسيسين والرهبان، بالمحبة والاحترام، وهو ما عبّر عنه القرآن الكريم بكلمة المودة.
لم ترد هذه الكلمة في القرآن سوى مرتين. مرة عندما تحدث عن العائلة ومرة عندما تحدث عن المسيحيين. وكأنه يريد أن يوحي لنا اننا والمسيحيين عائلة. ليس عائلة وطنية فقط، بل عائلة إيمان بأن الله واحد، كل على طريقته.
تغيب عن ثقافة الارهابيين الالغائيين للآخر المختلف دينياً أو مذهبياً أو عقائدياً مبادئ اساسية وجوهرية تقوم عليها العقيدة الاسلامية. من هذه المبادئ انه «لا إكراه في الدين» (2) واللا ليست ناهية فقط للإكراه، بل نافية للدين. وانه «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (3) . واحتراماً من الاسلام لعقل الانسان، ترك له حتى حرية الكفر على أن يخضع يوم القيامة للحساب الإلهي.
فالقرآن الكريم يقول : « ان الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون «(4) . أي ان الحكم لله، وليس لاي انسان أو مؤسسة أو مرجعية حق البحث في ضمير الآخر. فحرية الضمير مكفولة في الاسلام.
ومنها قول القرآن الكريم : « ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون«.(5)
فالدين واحد. والدين عند الله الاسلام. والاسلام ليس ما جاء به النبي محمد عليه السلام فقط، ولكنه كل المسيرة الإيمانية بالله الواحد والاستسلام لله الواحد، من ابراهيم (هو سماكم المسلمين»، حتى موسى وعيسى، وانتهاء بمحمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
لا شك في ان هذه المبادئ الدينية الجامعة غائبة عن ثقافة التكفيريين الذين اتخذوا الارهاب وسيلة لتبرير اعتقاداتهم المتوحشة.. لذلك فان من المهم، بل من الضروري، البحث عن اجابات للأسئلة التالية : لماذا حدث ذلك؟ وكيف حدث؟ ومن المسؤول؟.
اذا كان الارهابيون في العراق وسورية قد روعوا الآمنين من مسيحيين ومسلمين، ومن عرب وأكراد وسريان وكلدان واشوريين وصابئة وأيزيديين وشبك، وسواهم من الجماعات، واذا كانوا قد سفكوا دماء ابرياء، وهجّروا آمنين، وسبوا أحراراً، وهدموا بيوت الله من كنائس ومساجد.. اذا كانوا قد ارتكبوا كل هذه الجرائم ضد الانسانية وباسم الاسلام، فكيف يحرر الاسلام نفسه من براثن خاطفيه؟ وكيف يقطع الطريق أمام مستغلي هذه الجماعات الارهابية ومستثمريها في مشاريعهم التدميرية؟ وكيف يبرئ عقيدته في السماحة واحترام التعدد الإيماني والاختلاف الفكري والمذهبي من تهمة التكفير العشوائي التي يوصم بها ظلماً وعدواناً؟
هناك آية قرآنية تجيب على هذا السؤال المركب وردت في سورة آل عمران. تقول الآية، وأختم بها : « إذ قال الله يا عيسى اني متوفيك ورافعك اليّ ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة«.
فكيف يكفر الارهابيون المسيحيين أتباع عيسى عليه السلام، والله يقول انه جعلهم فوق الذين كفروا الى يوم القيامة؟.
ان الارهابيين الذين يسفكون دماء الأبرياء باسم الاسلام، ويجزون رؤوس ضحاياهم وهم يرددون «الله اكبر»، انما يرتكبون ما حرم الله باسم الله وفي وجهه.
انهم بذلك يتحدّون الاسلام، بل انهم يتحدّون العزة الإلهية، الأمر الذي يجعل مواجهتهم واجباً على كل مؤمن بالله.. وبالانسانية.
كما بدأت، أختصر ما قلت بالتأكيد على أمرين أساسيين :
الأمر الأول : هو ان التطرف لم يأت من الخارج. انه صناعة محلية. مصدره سوء فهم النص الديني أو سوء تأويله، ولكن دائماً سوء استخدامه. من أجل ذلك يتحتم العمل على تصحيح بعض المفاهيم الدينية ووضعها في اطارها الفقهي السليم، وتعميم هذا التصحيح بحيث يصبح ثقافة عامة. وهذه مسؤولية المتنورين المتمكنين من أسس العقيدة الاسلامية.
الأمر الثاني : هو ان الارهابيين لم يأتوا من كوكب آخر. انهم نتاج عملية غسل دماغ جرت بمياه هذه المفاهيم المغلوطة والمشوهة.
لقد نمنا طويلاً على مخدة اجتهادات توصّل اليها علماؤنا الأبرار منذ عدة قرون خلت. استجابت اجتهاداتهم الى حاجات مجتمعاتهم في ذلك الوقت. ومع ذلك لم تكن تلك الاجتهادات واحدة. كانت هناك اجتهادات مختلفة. يعكس هذه الحقيقة تعدد المذاهب. وتكرسها القاعدة الشافعية التي تقول :» رأيي صحيح يحتمل الخطأ. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب«.
اليوم تستيقظ مجتمعاتنا على حاجات تفرضها تحولات وتطورات القرن الواحد والعشرين. تحتاج هذه المجتمعات الى اجتهادات جديدة ومعاصرة تستجيب الى حاجاتها والى متطلباتها المستجدة.
ان غياب هذه الاجتهادات الفقهية التي تستند الى الشريعة، فتح الابواب على مصراعيها أمام مدعي الاجتهاد، وأمام منتحلي صفة الافتاء، لتقويل الاسلام ما لم يقله. بل لتقويله عكس ما يقوله، وما يدعو اليه من تراحم ومن احترام للكرامة الانسانية.
لقد تسلح مدّعو «جهادٍ» و»نضال»، بهذه الاجتهادات الفاسدة ليرتكبوا أبشع جرائم ضد الانسانية. فجعلوا من جهادهم ارهاباً، ومن نضالهم عدواناً، كل ذلك باسم الاسلام.
من هنا المسؤولية الأخلاقية في مواجهة ظاهرة التطرف والارهاب. وهي مسؤولية تبدأ وتنطلق من تصحيح المفاهيم المنحرفة والمنسوبة ظلماً الى الاسلام.
لم يعد يكفي أن نقول ان الاسلام براء مما يرتكبون ومما يزعمون. لا يكفي أن نردد ان الاسلام دين سلام وتسامح.
بل لا يكفي أن نرفع الصوت مستهجنين الارتكابات الاجرامية باسم الاسلام. لقد اصبح من الواجب أن نبيّن ذلك فقهياً ومن خلال صياغة قواعد عامة تستند الى النص القرآني الكريم وما أكثرها-، والى الحديث النبوي الشريف وما أغزرها-.
اننا نعيش في عالم متداخل تتحكم فيه مواثيق دولية بشأن حقوق الانسان، وحول حقوق الجماعات. وبموجب هذه المواثيق تتقدم الحرية الانسانية حتى على السيادة الوطنية. ويتقدم القانون الدولي على القوانين الوطنية المحلية.
وفي هذا العالم يعيش أكثر من 500 مليون مسلم في مجتمعات ودول غير اسلامية. فماذا يعني لهم وللعالم تهجير غير المسلمين من ديارهم بالارهاب، وهم أهل الديار السابقون للاسلام؟ أي ثمن يمكن أن يُحملوا على دفعه؟ وأي ثمن يمكن أن يدفع الاسلام كدين من خلال وصمه بالارهاب وعدم احترام كرامات الناس وحقوقهم ومقدساتهم؟.
ليس خطأ الاعتقاد بأن ثمة مؤامرة تستهدف الاسلام. ولكن الخطأ بالتأكيد هو في عدم ادراك الحقيقة المؤلمة، وهي ان مسلمين مضللين تحولوا الى اداة من ادوات تنفيذ هذه المؤامرة.
لقد «ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً «.
1- سورة المائدة الآية 32 . –
2- سورة البقرة الآية 6 . –
3- سورة الكهف الآية 29 . –
4- سورة الحج الآية 69 . –
5- سورة البقرة الآية 62 . –