دلَقَت الخارجية الأميركية سطلاً من المياه الباردة على الرؤوس الحامية في قضية مقتل الزميل الراحل جمال خاشقجي. وأقرّت بأن التحقيق السعودي الذي استند إليه المدّعي العام في المملكة في مطالعته الاتهامية، هو “خطوة مهمة على الطريق الصحيح”.
والأصحّ في كل حال، هو الذي عاد وزير الخارجية عادل الجبير وشدّد عليه لجهة رفض تدويل القضية أو تسييسها أو الاستثمار فيها من قبل دول وجهات مهجوسة أصلاً (وقبل قضية خاشقجي) بكيفية التعرّض للسعودية، مكانة ودوراً ووزناً وثقلاً وسياسةً وحجماً وتأثيراً.. وكان الوضوح التام في الموقف الرسمي العام الذي عبّر عنه الجبير، هو ردّ مكثّف على كل ذلك التوظيف المعيب في خطأ محزن ومؤسف ومؤلم: ما يحصل “لن يغيّر سياسات المملكة في مواجهة الإرهاب وإيران”.. واستطراداً لن يعدّل في توجّهاتها الاستراتيجية، لا في شأن مسار الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية داخلياً، ولا في شأن القضايا العامة التي تُعنى بشؤون العرب والمسلمين خارجياً.
الخطأ الذي ارتكب في هذه القضية، لا يسوّغ ولا يُبرّر خطايا الذين ينتهزون الفرصة ويضعون المعطى الإنساني في بازار السياسات والرهانات العارية ويتطلّعون إلى تصفية حسابات عالقة مع المملكة في الإجمال.. والواقع الذي تُعيد تلك الحملة “البازارية” تأكيده هو أن السعودية مُستهدفة من حيث المبدأ وأيّاً يكن العنوان المطروح. ولم تفعل كثرة التوظيف والاستثمار في قضية خاشقجي سوى تثبيت هذه الحقيقة بما يعنيه ذلك من استنتاج يصبّ في خانة السعودية وليس في خانة مستهدفيها، ويحكم لها ولا يحكم عليها: مواقفها إزاء الغلوّ الإيراني والإرهاب المتأسلم وتسييس الدين والأجندات الجموحة والقضايا المتفجرة من اليمن إلى سوريا مروراً بالعراق، وثباتها الحامي للأمن القومي الشامل في الخليج العربي ومقاربتها لملف النزاع مع إسرائيل وواقع القضية الفلسطينية وغير ذلك.. تلك في جملتها عناوين كافية في عُرف المصطادين راهناً في دماء الراحل خاشقجي، لوضع المملكة في دائرة الاستهداف السلبي والتآمري الدائم. والدأب في محاولات كسرها وابتزازها وتشتيت قواها ومقوّمات منعتها وريادتها!
قضية خاشقجي مأزق وقعت فيه السعودية من دون شك، لكنها في مقاربة الأمر واستدراكه تفوّقت أخلاقياً وشرفياً على مستهدفيها: ما حصل خارج عن المألوف والسياق. وطارئ على العلاقة بين الدولة وناسها. ولا يدلّ ولا يؤشّر لا في الشكل ولا في المضمون على نوعية تلك العلاقة وطبيعتها.. وليس في الأمر هنا توصيف طوباوي أو مزايدة بمثالية مفقودة بل تدليل مباشر ولا ينكره سوى صاحب غرض ومرض، على أن القيادة السعودية لا تتعامل مع السعوديين باعتبارهم “أعداء” لا يصحّ معهم إلاّ العسف والبطش وحكم الأجهزة الأمنية بالحديد والنار والكيماويات والبراميل المتفجّرة والدبابات والصواريخ والطيران الحربي.. وما تناسل من هذه السيرة واشتقّ! ولا تفرض عليهم قياسات الأحزاب الرائدة والقيادات الخالدة والمشاريع الخلاصية المدمّرة للذات وللغير. بل هي قيادة تقرّ بحصول “خطأ” و”تعترف” وتتصرف بناء على ذلك، لأن هذا الخطأ تحديداً جاء من خارج السياق وليس من ضمنه.
لا أحد يتوهّم أن الحملة ضدّ السعودية ستتراخى أو تتراجع قريباً أو بسهولة، لكن ما لا وهم فيه، هو أن الرياض لن تخضع للابتزاز ولن تخلط الحابل بالنابل ولن تتخلى عن قيمها وسياساتها وأدوارها وريادتها وإن كانت أكلاف ذلك كبيرة ولا ينكرها أحد!