كثرت في الآونة الأخيرة اللقاءات الدولية خارج الأمم المتحدة وميثاقها: مجموعة السبع، مجموعة العشرين، مجموعة الثماني، وسواها. أحياناً تضم هذه روسيا، وأحياناً تنعقد ضدها، منذ أحداث أوكرانيا. ويُتركُ مجلس الأمن مسرحاً لمظاهر الحرب الباردة الجديدة، كما كان يُعبِّر عنها في ذروة النزاع بين العالم الشيوعي والعالم الرأسمالي. نادرة جداً هي القضايا التي يحلَّها المجلس. وكثيرة القضايا التي يعقّدها، كالقضية السورية. فهو في نهاية المطاف، ليس سوى هيئة تعكس مزاجات الدول الكبرى وأدوارها واحتقارها حياة الشعوب. الفيتو الأميركي الذي عطّل القرارات المتخذة ضد إسرائيل، تحوّل إلى فيتو روسي يعطِّل القرارات الخاصة بسوريا. بسبب الطريق المسدود، ذهَب الفريقان إلى جنيف، ثم توقّفا عند جدار آخر. وكما اختلفا على تفسير حروف القرار 242، اختلفا على تفسير بنود جنيف -1 الذي حضره جميع المدعوين، إلا أول الوسطاء الثلاثة في النزاع السوري، السيد كوفي أنان. ربما لمعرفته القديمة بعدم جدوى اللقاءات السابقة لأوانها. وهو أوان قد لا يحين أبداً.
أهم هيئتين في المنظمة الدولية هما مجلس الأمن والجمعية العمومية. واحد للصوت، وواحدة للصدى. في الحالتين، النتيجة واحدة. العام 2006 استخدمت أميركا الفيتو في اعتداء بيت حانون، فذهَب العالم إلى الجمعية العمومية. اقترع 188 مندوباً ضد إسرائيل، واقترعت أميركا مع حلفائها المألوفين في الموضوع الإسرائيلي: إسرائيل، بالاو، مارشال إيلاندز، وبيلاروسيا.
هل الأمم المتحدة مزحة إذن؟ أحياناً، نعم. لأنها، ببساطة، لا تستطيع أن تكون أفضل من الدول الأعضاء. لقد أسّسها هذا العالم من أجل أن ينتصر على نفسه ويحدّ من شروره. وقطَع شوطاً، لكن مسافة الشر لا نهاية لها.
بعد كوارث الحرب الأولى، أُنشئت “عصبة الأمم” لعلها تُوقف الحروب، فلما أخفقت، أقيمت الأمم المتحدة بعد الحرب الثانية. كانت أوروبا قد دفعت في الحربين ثمناً مضاعفاً للثمن الأميركي. الإصابات البريطانية العسكرية في معركة باشنديل (1917) وحدها تجاوزت الخسائر الأميركية في الحربين مجتمعة. وفقَد الجيش الفرنسي ضعفي الخسائر الأميركية في فيتنام خلال ستة أسابيع من القتال العام 1940.
لذلك، كانت المنظمة رغبة أوروبية وروسية أكثر منها أميركية. وثمة قول شهير، وفاقع، للآنسة كوندوليزا رايس، عندما كانت مستشارة الأمن القومي لجورج بوش: “هذا العالم مكان مليء بالفوضى ويجب تنظيفه”. لكن عندما قرّر بوش “تنظيف” العراق من الأسلحة النووية، رفضت الأمم المتحدة أن تمنحه شرعية التدخّل. وقال جاك شيراك يومها محذراً: “سوف تُفتح أبواب الجحيم”. وهي لم تُغلق إلى اليوم. فقدَت الولايات المتحدة في العراق بضعة آلاف رجل، وفقَد العراقيون مئات الآلاف. ولكن كان أمراً اعتيادياً أن تقوم الدنيا بسبب خمسة آلاف أميركي. العراقيون مجرّد رقم تقديري. كأن تقول “نحو” مليون قتيل وجريح. الدقّة تَرَف في العالم غير الأول. هل تصدّق أرقام الخسائر في سوريا بعد الذي تراه؟
عندما جئت إلى الأمم المتحدة المرة الأولى خريف 1973، كان شعوري شعور الأطفال أمام صندوق الفرجة. أيها المتلهّف، العالم بين يديك. لكنني الآن على ميلَين من المبنى الأزرق ولم أشعر بفضول الزيارة منذ ثلاثة أشهر. لا شيء في الحقيقة يدور هناك. فقط في الجلسات السرية التي لا نستطيع حضورها، تكشف الدول الكبرى صراعاتها: المندوب الروسي يُدافع عن دور الرئيس بشار الأسد، والمندوب الفرنسي يردّ مقترحاً منحه جائزة نوبل للسلام.
لكن للأمم المتحدة دوراً عظيماً في تلطيف شرور الناس وجروح الضحايا. بدل التفكير في الفيتو الروسي، يجب أن نتذكّر قنوات المساعدة إلى اللاجئين. يجب أن نتذكّر المؤسسات الفاعلة، من الفاو إلى الأونيسكو، ومنظمة الصحة، والخوَذ الزرقاء، التي لم تغادر بلدنا منذ العام 1958. إذن، العلّة ليست تماماً في هيئة الأمم، وإنما في البلدان التي تحاول معالجتها.
كانت القوات الدولية في الماضي مؤلّفة من عسكريين متدرّبين، كالأسوجيين، والكنديين، والهولنديين. الآن لم يعد الأمر كذلك. معظم ذوي الخوَذ الزرقاء من دول جنودها في حاجة إلى رواتب دولية. والمنظمة متّهمة بأنها تبدّد الكثير من “الكاش” وتدلّل موظفيها. وأعتقد أنه باستثناء فضيحة “النفط مقابل الغذاء”، التُّهم غير دقيقة. وكان منشأ الحملة عليها غالباً من غُلاة الأميركيين. وتتعامل الولايات المتحدة مع المنظمة أحياناً على أنها ضيف غير مرغوب فيه. لذا، تُرسل إليها مرة سفيراً يؤدّبها، وأحياناً سفيراً على مستوى رفيع، كما في حالة جورج بوش الأب. ولعل اشهر “المؤدِّبين” كانت مادلين أولبرايت، التي وصفت كاسترو بأنه من دون خصيَتين، مستخدمة التعبير الإسباني لذلك، للتأكّد من أن الرسالة أبلغت المرسل إليه No cajomes. وبعدها أُعطي المنصب جوزيف بولتون، ذو الشاربين المعقوفين ومعالم قبضايات أخرى. في غير مرحلة، تعاملت أميركا مع المنظمة كما تعامل معها نيكيتا خروشوف يوم خلع حذاءه وضرب به الطاولة أمامه في الجمعية العمومية. المسز أولبرايت استخدمت الفيتو لخلع بطرس غالي، مُزدرية 14 دولة، بينها فرنسا وبريطانيا. No cajomes إلا للمسز أولبرايت.
الأمناء العامون كانوا أيضاً يعطون المنظمة شيئاً من صورتهم. جميعهم أرادوا أن يقلّدوا الأسوجي داغ هامرشولد، أو شيئاً منه. لكنه كان لا يُقلَّد. أعطت أسوج المنظمة أرقى من لديها، سليل عائلة سياسية أكاديمية نادرة، وأعطى هو العالم كل ما لديه: أرقى مراتب الإنسان حيال الإنسان. لم يتكرّر.
إلاَّ أن خلفاءه، حاولوا جميعاً أن يتركوا أثراً ما. كورت فالدهايم النمسوي، وبيريز دو كويار البيروفياني، وبطرس غالي الباشا الأكاديمي، وكوفي أنان الغاني، والكوري الجنوبي بان كي – مون. كان كل منهم يمثّل قارة ما. واعتُبر غالي المصري ممثلاً أفريقيا السمراء. والحقيقة أن وصول غالي إلى الأمانة العامة كان “مخرَجاً” ناعماً لمصر. فالرجل اعتُبر أنه يستحق منصب وزير الخارجية، وليس مجرد وزير دولة للشؤون الخارجية إلى الأبد، لكونه مسيحياً. كانت الأمانة العامة فتوى مُرضية للفريقين. ولا أعرف إن كان صاحب الفكرة هو الرئيس حسني مبارك نفسه، لكنني أعرف أن العلاقة بين الرجلين كانت ممتازة. يعبّر عن هذا التميّز نوع النكات الذي كان يتبادله مصريان في المراتب العالية. وكان الأمين العام يرويها بمِلحها، وخصوصاً في ما يتعلق بالمسز أولبرايت.
يقضي بان كي – مون الأشهر الأخيرة من ولايتَيه. ولم تظهر حتى الآن أسماء المتسابقين. وعلى رغم خفوت الأضواء، لا يزال منصب الأمين العام جذّاباً. هناك يُكتب، أو تُكتب، هوامش التاريخ الذي نحْياه يوماً بيوم. وبالنسبة إلى الذين تابعوا مسرح هيئة الأمم مِثلي، منذ أربعين عاماً، يفجعهم أن الأكثرية الساحقة من انشغالاتها تدور في عالمنا. كان كل شيء في الماضي، يدور حول فلسطين، ثم راحت فلسطين تنسحب لحرائق أكثر آنية: حرب لبنان. حرب الجزائر. حرب السودان. حرب العراق وإيران. حرب الكويت. حرب بوش الابن في العراق. حرب وجود العراق. حرب سوريا. حرب تموز 2006. حرب اليمن. حروب ليبيا، وما يلي.
من غير اللائق أن نطلب من السيد بان أن يحلّ كل هذه القضايا، أو حتى أياً منها. وقد يعود إلى سيول مع ورقة غار واحدة يعلّقها على جدار منزله. ذات مرة على عشاء وزير خارجية البحرين، الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، وكان لبنان قبيل آخر انتخاباته النيابية، التفت إليّ في نهاية العشاء وقال بالفرنسية: bonnes élections. وأجبت شاكراً: كلانا يحتاج إلى التمنيات، ولكن لا انتخاباتنا ولا انتخابات الأمم المتحدة تغيّر الكثير.
سوف نفتقد السيد بان. لم تعُزْه المواقف، لكنه مثل كل أمين عام سبقه، جاء في الوقت الخطأ. ليس هناك وقت طيّب في هذا العالم. وليس هناك أمين عام لم ينفجر العالم في وجهه. وهذا القرن ابتدأ كما انتهى القرن الماضي. عندما وصل بان إلى نيويورك ليُشرف من المبنى الأزرق على أحوال العالم، كان قد سبقه أسامة بن لادن وطياروه، خطفوا الطائرات والناس، ليدمّروا أبراج البشر.
لم يعد الإرهاب محصوراً في الشكل أو في الجغرافيا. “الشيخ المجاهد” خرج من كهوف تورا بورا ليدمّر أهم رمز اقتصادي في العالم. ومنذذاك، اتخذ العالم مساراً جديداً ورعباً غير مسبوق النوعية: “الشيوخ المجاهدون” يدمّرون الشرق الأوسط ودوَله وحدوده. و”الأنظمة المُنقذة” تنهار أمامهم. والأمم المتحدة توزّع على دوائرها إدخال مصطلح رسمي جديد لم يرِد من قبل: “البراميل المتفجّرة”.