مقابل توقّع قاسم سليماني نهاية «داعش» «الحتميّة»، طلب باراك أوباما تفويضاً تشريعيّاً من الكونغرس مدّته ثلاث سنوات، لمحاربة ذاك التنظيم في العراق وسوريّة وفي مناطق تتعدّاهما.
أغلب الظنّ أنّ توقّع أوباما أدقّ من توقّع سليماني.
فلم يعد من الهرطقة أن يقال إنّ «داعش» يستند إلى دعم أهليّ في العراق كما في سوريّة، وإنّ الدعم هذا مصدره طائفيّ ومناطقيّ، ومحطّاته الكبرى تمرّ في استبداد النظامين الصدّاميّ البائد والأسديّ الحاليّ، وإهمال الأسدين لمناطق الشرق والشمال الشرقيّ في سوريّة، والعداء للسنّة بعد سقوط صدّام في العراق، ودمويّة المواجهات الأميركيّة – السنّيّة في «المثلّث السنّيّ» العراقيّ بعد 2003.
لكنّ هذه العوامل كلّها، على أهميّتها، لا تكفي وحدها لتفسير قوّة «داعش»، أو لفهم الاستقبال الحسن الذي لقيه ويلقاه «خطابه الثقافيّ» واستحضاره «الخلافة» التي ربّما عاشت في المكبوت المديد لبيئات عريضة لم تجنِِ من عقود الحداثة الشكليّة، الجمهوريّة والعسكريّة، إلاّ النبذ والاستضعاف.
فهناك أيضاً وجهة عريضة تشقّ اليوم طريقها في المنطقة، يمكننا أن نصفها بـ «الداعشيّة»، حتّى حين تكون مناهضة لـ «داعش». وفي وجهة كهذه تزدهر تراكيب كـ «الدولة الإسلاميّة» وأطروحات كأطروحاتها.
صحيح أنّ دول المنطقة لم تكن مرّةً عديمة الصلة بتكوينات أهليّة صلبة، دينيّة أو طائفيّة أو إثنيّة. لكنّها لم تكن مرّةً، كما حالها الآن، متطابقة تمام التطابق مع تلك التكوينات.
فإذا اعتمدنا سوريّة نقطة انطلاق، وجدنا أنّ النظام الذي يخوض حرب البقاء والفناء، بالبراميل وبالكيماويّ وبما تيسّر من أدوات قتل، نظامُ طغمة أمنيّة وعسكريّة ذات مصالح اقتصاديّة فاقعة. لكنّ الأصحّ أنّه ليس نظام طغمة بالمعنى الذي أقامه بينوشيه في تشيلي، أو ضبّاط اليونان خلال 1967-1974، ولا حتّى نظام حسني مبارك في مصر وبن علي في تونس، وقبلهما الشاه في إيران.
فهو أوّلاً وأساساً، وقبل أيّ تحديد اجتماعيّ آخر، نظام جماعة أقلّيّة مذهبيّاً، ليست كلّها بطبيعة الحال مؤيّدة له، ولا مستفيدة منه، إلاّ أنّ رعونة السلطة وقسوتها في مقاومة التغيير تعكسان خوفاً لم يوجد مثله في إيران وتونس ومصر، وهي كلّها بلدان أعلى من سوريّة في درجة انسجامها الطائفيّ.
وفي العراق بات معروفاً أنّ صدّام حسين سبق أن قاد عمليّة انتقال من حكم الحزب، حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، إلى حكم الطائفة والمنطقة. وعلى رغم التعويل الراهن على رئيس الحكومة حيدر العبادي، فإنّ عراق اليوم يستأنف الصدّاميّة في صيغة معكوسة، بحيث تحلّ في الصدارة طائفة محلّ طائفة ومنطقة محلّ منطقة.
وإذ يرجح الدور الشيعيّ المحض على السياسة الخارجيّة لإيران، ويتنامى الدور السنّيّ في السياسة الخارجيّة لتركيّا، وتتّجه يهوديّة إسرائيل لأن تزن أكثر ممّا تزنه ديموقراطيّتها، لا تقدّم بلدان كليبيا واليمن ولبنان إلاّ عيّنات متفاوتة على تحوّل الدول أوعيةً للطوائف أو المناطق، أو تعرّضها للانكسار تحت ضغط الميل الأهليّ إلى الصفاء والاكتفاء الذاتيّ. وفي هذا كلّه انتصار لـ «داعش»، وعياً وسلوكاً. فحتّى حين ينهزم «داعش»، كما الحال في كوباني، لا يتبدّى أنّ وطنيّة سوريّة جامعة هي المستفيد من تلك الهزيمة، كما لا يتبدّى أنّ حدثاً كهذا، على أهميّته، يحسّن شروط السعي إلى إقامة دولة سوريّة بديل.
فعنف «داعش»، والحال على ما هي عليه، يرهص بمستقبل قد يكون مستقبلنا بوصفنا جماعات أهليّة متناحرة سُدّت في وجهها أبواب الدولة. وليست بلا دلالة المبايعات التي يحرزها التنظيم ما بين اليمن وليبيا. أمّا الوضع الإقليميّ والدوليّ الذي يحارب «داعش» حرباً تقوّيه، فأغلب الظنّ أن يسفر لاحقاً عن استعداد للتطبيع مع واقع الحال «الداعشيّ». وقد تكون سوابق أفغانستان و»طالبان» مفيدة في هذا الباب.