يقلق أوروبا والعالم صعود اليمين المتطرّف في أوساط الفرنسيين، ليس فقط لأن العنصرية تعود تحت ستار الديموقراطية وصناديق الاقتراع لتشكّل أساس برنامج عمل سياسي حزبي في واحدة من أعرق الديموقراطيات في العالم، بل لأن ذلك الصعود يؤشر في مكان ما إلى نكوص الوعي الحداثي العلماني وعودته القهقرى إلى مطالع الألفية الثانية وإرهاصاتها المدمّرة.. عدا عن تأثيره السلبي على قصة «محاربة الإرهاب»!
وللتاريخ رواياته. وهذه تروي في خطوط وكليشيهات عريضة، أن صعود الثورة البلشفية في روسيا كان كافياً لإصابة أوروبا المبتلية بالحرب الكبرى، برعب أبعد مدى من تلك الحرب. وهو ما أوجد أساس الوعي الأسود الذي أنتج في إيطاليا بذور الفاشية وفي ألمانيا بذور النازية، وأطلق المعطى القومي إلى ذراه في مقابل انطلاق المعطى الطبقي (في الثورة الروسية) إلى ذراه.
وذلك أدى بعد أقل من عقدين إلى اشتعال حرب كبرى ثانية، كانت أعنف وأوسع مدى من الأولى.. لكن في الوصول إليها لا يغيب قانون الفيزياء الأول الخاص بالفعل ورد الفعل، بل يحضر في السياسة والمال والجغرافيا ليكمل العقد الفكري والديني الذي حمل الفاشيين والنازيين إلى السلطة. بحيث إن كثيرين في المثال الألماني، يتّفقون على الرأي القائل إنه لولا «معاهدة فرساي» وجورج كليمنصو تحديداً، لما أمكن للهلع في ألمانيا أن يكتمل ويؤطَّر ويوصل عسكرياً فاشلاً ومُسرّحاً من الخدمة اسمه أدولف هتلر إلى قيادة شعب يُعتبر مثالاً لا يُقارن للذكاء!
أي لولا العقوبات الكاسحة والشروط الجغرافية والعسكرية المهينة والتعويضات المالية الفلكية التي وردت في «معاهدة فرساي» بناء على إصرار كليمنصو أكثر من غيره، لما أمكن لعربة هتلر أن تسير على عجلة واحدة هي تلك التي شكّلها لينين في روسيا..
.. وفق المبدأ الفيزيائي ذاته، يمكن الافتراض بأن «الإرهاب» هو صنو رهاب الإجانب في تمكين اليمين الفرنسي من التقدم.. إلى الخلف! وبناء حيثية سياسية خطيرة على قاعدة عنصرية مزدوجة تدمج الدين بالهوية، وبسهولة نسبية، تبعاً لكون معظم الغرباء من المسلمين!
لكن المفارقة تكمن في أن النتائج الصادمة للانتخابات المحلية الفرنسية هذه، بما تعنيه من كونها رد فعل على «الإرهاب الاسلامي»، هي ذاتها تقدّم (لمن يشاء الاستطراد السعيد!) أخطر المبررات النظرية لذلك الإرهاب! بحيث يمكن بسلاسة لافتة، مقارعة العالم في أوان المحن هذا، بنظرية برقية عاجلة تفيد بأن عملية إرهابية واحدة كانت كافية لإخراج أكثر من ثلاثين في المئة من الناخبين الفرنسيين عن أطوارهم المدنية والحداثية وأخذهم إلى أقصى المواقف المتطرفة.. فكيف الحال مع أجيال عربية وإسلامية توارثت أباً عن جد، نكبة فلسطين وشعبها، وتعيش راهناً منذ نحو خمس سنوات، اكتمال نكبة تكاد أن تكون أمرّ، هي نكبة سوريا وشعبها؟!.. خصوصاً وأنّ الوعي المكتمل يقول، إنّ الغرب يتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية عن النكبتين؟!
خطورة المثال الفرنسي، يفترض أن تكون كافية لتصويب مقاربة الغرب لحربه على الإرهاب، وإخراجها من سياق الميدان القتالي وحده إلى طرح شامل، لا يكتفي التشخيص الخبيث فيه بتحميل الذات والقيم العربية والإسلامية كل المسؤولية، ولا يستمر في طرح الأسئلة وهو الذي يملك معظم الأجوبة سلفاً!