IMLebanon

في الأصولية والوصولية

يتسلّى الإسرائيليون في هذه الأيام. ويُظهرون تشاؤماً بفائض ترف يعرفون تماماً كيف يستهلكونه! أكان في الشأن النكبوي السوري. أو في الشأن الأصلي الفلسطيني. أو في الشأن الرعائي الدولي، الأميركي من جهة والروسي من جهة. أو في الشأن القيمي العام الذي لطالما وضعهم في خانة العوالم السفلى برغم ظواهر العيش العليا، إلى أن جاء «زمن الانتصارات» الممانعة وعدّل القياسات بعد أن راح عموم الناس، العرب والمسلمون، يقارنون ويخجلون! ويحسبون ويتأسّفون! ويعدّون أرقام ضحاياهم أمام «العدو» وأرقامها أمام «الأهل».. ثم على النواجز يعِضّون!

يعتمد الإسرائيليون إزاء رئيس سوريا السابق بشار الأسد سياسة الجزرة والخسّة ذات الأبعاد الأرنبية المعروفة! ويعرفون مسبقاً وسلفاً وتماماً بتاتاً عقم المحاولة أو بالأحرى عبثيّتها طالما أنّ شيئاً آخر غير الأداء الأرنبي لم يُسجَّل ولا مرّة واحدة باتجاه «حدودهم» الشمالية مع سوريا! وباتجاه احتلالهم المربح والمجزي والمديد لمرتفعات الجولان، على مدى يقارب النصف قرن، أو بالأحرى منذ حرب العام 1973!

وبرغم ذلك، وفي ضوء فائض الترف والاطمئنان. وفائض المعرفة والمعلومة. ودقّة الحسابات والتوقعات، يرمون حبل الغواية المعسّل حول رقبة المخلوق القابع في دمشق لكنّهم في واقع الأمر، يستهدفون غيره من خلاله.. ويجرّبون: الإيراني الذي استحضر أخيراً في فيينا على لسان الرئيس حسن روحاني تاريخ الفرس «الإنقاذي» لليهود، يمكن له أن يسمع أنشودة «الحماية» الإسرائيلية المركّزة والمكرّرة للأسد، فيفتح بذلك طريقاً ويقفل أبواب أزمة متصاعدة. أما إذا اختار الصمم، فلا شيء يمنع إضافة المزيد من الإحراج والمتاعب (إذا أمكن) عليه وهو الذي يدّعي العداء لإسرائيل لكنه دفع ويدفع الغالي والنفيس من لحم ناسه وثروات بلاده دفاعاً عن الذي تعتبره إسرائيل «حليفاً استراتيجياً» لها. وتستعرض على الملأ «احتمال» إقامة «نوع من العلاقة» معه على ما قال وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان بالأمس!

وفي عالم المصائر والمصالح الكبرى لا مكان فسيحاً للصدف الجميلة! وفي عالم هذا الشرق تكثر الخرافات والغيبيات وتكثر في موازاتها اليقينيات المتشظية والاستراتيجيات المتقلقلة.. ومن ذلك أن يدور الزمن دورة كاملة على مدى أربعة عقود ويعود إلى ما كان عليه. أي أن تُسفك دماء تكفي أنهاراً كبيرة وبحاراً صغيرة. وتُهدر ثروات اسطورية. وتُدمَّر أمم وكيانات، وتُنكب شعوب تامة بحجّة شعار «مقاتلة الصهاينة»، واستئصال «غدّتهم السرطانية»، ثمّ يتبيّن تصريحاً تلوَ تصريح ومصيبة تلوَ أخرى، أنّ الأصولية التاريخية أبدى وأهم من الأصولية الدينية وموازية للوصولية السياسية عند الإيرانيين! وإنّ ما قاله الشيخ روحاني في فيينا عن ذلك التاريخ البيني مع اليهود، هو «توضيح» واجب وصار لا بدّ منه! وتصحيح لمسار شطّ في الغلط طويلاً! عدا عن كونه عنوان رسالة يجب أن يقرأه «القارئ» الإسرائيلي ويردّ عليه، قبل أن يفتح الرسالة ويدقّق في احتمالاتها الواسعة..

والإسرائيلي مرتاح. والإيراني مأزوم. لا الأول يشعر بأي مغص أو وجع رأس أو حرج أمام حليفه الأميركي إذا جرّب مع الإيراني! ولا الثاني (هذا الإيراني) قادر على متابعة النزف بعد أن صار أسير «انتصاراته» الخارجية المرشّحة لكرسحته داخلياً! وأسير تحالفه مع الروس الحاثّين خطاهم على دروب مصالحهم الكبرى والعليا. ثم أسير شعارات أوصلته إلى الحائط، وكلّما جرّب نطحه زاد النزف من الرأس وبقي الحائط في مكانه.. إلى أن وصل إلى معادلة قارصة أساسها الاختيار: بين الادعاءات والطموحات والأدوار الخارجية المستنزفة والمتلاشية في كل حال، وبين استقرار نظامه في أرضه ومركزه!

.. وسبق الفضل أصلاً بين الطرفين. سوى أنّ الحرب مع صدام حسين في منتصف ثمانينات القرن الماضي كانت حجّة التواصل وتبادل المنافع، فيما الحرب من أجل بشار الأسد في هذه الآونة، هي حجّة العودة إلى التاريخ! حتى وإن صدح أحدهما من فيينا عن الماضي.. وردّ عليه الآخر من الجولان عن المستقبل!