أصابت شظايا الإرهاب ألمانيا، وما يبدو أنه انفلات لوحش الجريمة المجانية هو في الوقت ذاته مظهر من مظاهر احتضار هذا الوحش، ومشاهد «القوة» الترويعية التي يتعمد القاتل الإرهابي بثها، ما هي إلا بيانات عن بلوغ نزفه الذاتي درجة تؤذن بالمدة الباقية له حتى يلفظ نفسه الأخير.
نجاح الهجمات الإرهابية في عدد من الدول الأوروبية لا يقدم دليلاً على قدرة التنظيم التكفيري على الاختراق، مثلما لا يعني آلياً، عجز الأجهزة الأمنية في هذا البلد الأوروبي أو ذاك، فأوروبا التي تسعى إلى التشكل كفضاء عام مفتوح تدفع ثمناً محدداً من أجل نجاح وجهتها الإنفتاحية، وأوروبا التي تسعى إلى الدمج بين مكوناتها، وإلى استيعاب الهجرات الوافدة إليها، تدرك أن ثمة «أضراراً جانبية» لخياراتها، لكنها تستمر في سعيها، وتتمسك بسياساتها، لأن المركز الأوروبي الغربي، في نسخته الراهنة، يحاول أن يظل أميناً للأفكار الإنسانية الكبرى التي أطلقتها الثورة الفرنسية عام 1789، وأن يبقى على تماس مع مبادئ النهضة الفكرية التنويرية، ومع حركات الإصلاح الديني التي شهدتها ألمانيا وسويسرا وسواها. هذه القربى وهذا التعريف للذات الأوروبية، بخاصة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، يعطيان لأوروبا القرن الحادي والعشرين ميزاتها، ويقدمانها على صورة النموذج العالمي، الذي يستطيع أن يضيف إلى السيرة الإنسانية فصولاً حضارية جديدة.
ينطلق الإرهاب الذي يدعي الانتساب إلى الفكر الديني زوراً، من خلفية العزلة والاعتزال، فالقاتل المزوَّد بنسخة رديئة من نسخ تأويل نصه الديني، يشهر في وجه الناس الآمنين سلاح عزلته التي يرى فيها صفاء اعتزاله، وعندما يباشر قتل مجموعات لا يعرفها ولم تناصبه العداء يوماً، فإنما يستأنف بذلك قتلاً فكرياً لها كان قد باشره عندما اعتزل هذه المجموعات، وعندما أقام معتزله تحت اسم «دار السلام»، فبات جميع من في خارجه سكاناً «لدار الحرب»، التي صارت هدفاً دائماً مشروعاً للمنعزل المعتزل، وصارت أيضاً موضوعاً للسلب والنهب، عملاً بمضمون فتاوى يصدرها معمَّم أو غير معمِّم، ممن اعتزلوا الزمان والمكان، وممن خاصموا مقاصد الدين الحقيقية، وعجزوا عن إدراك مضامين أبعادها الإنسانية.
ولأن في كل عمل إجرامي يطاول الأبرياء سياسة، فإنه يجب الانتباه إلى أن التنظيم، أو التنظيمات الإرهابية، لا يضربون خبط عشواء، فاختيار أوروبا كمسرح لتنفيذ الهجمات لا يفسره انفتاح القارة على موجات الهجرة والنزوح فقط، ولا يشرحه إدعاء القول بتراخي القبضة الأمنية الأوروبية، لذلك فإن التعليل السياسي لمعاني الجريمة السياسية الإرهابية، يجب أن يظل ماثلاً في سياق سياسي آخر. في هذا المجال تجدر ملاحظة أن السياسة الأوروبية عموماً، اتخذت مسافة محددة من السياسة الأميركية في مناطق الشرق الأوسط الملتهبة، وهي، أي السياسة، خالفت السياسة الروسية والسورية والإيرانية والعراقية واليمنية في الديار العربية، بخاصة في الموضوع السوري والليبي، وفي مجال المسألة الكردية الموزعة على «أقاليم» العراق وسورية وتركيا وإيران، هذه المخالفة، وما واكبها من تمييز للذات الأوروبية، هما موضوعان للضغط السياسي الذي تستهدفه العمليات الإرهابية، من خلال التعرض لأمن الأفراد الأوروبيين في حياتهم اليومية، ومن خلال التشويش على أمان المجتمعات الأوروبية من خلال تعريضها لموجات الهجرة المتعاقبة. يطرح النقاش السياسي للعمليات الإرهابية أسئلة حول من المستفيد أو المستفيدين موضوعياً، من كل عمل إجرامي، لكن السؤال العام حول الاستفادة، لا يمنع من صياغة الجواب في شكل عام أيضاً، أي في صيغة تقول إن المستفيد، بالإضافة إلى المنفذ المباشر، هو كل مخطط سياسي يجد برامجه في مواجهة مع برامج تخالفه الوجهة وتنكر عليه صحة خياراته، على هذا المعنى، يجب القول إن كل عمل إرهابي يتضمن نمطاً من صراع الإرادات الحاضرة في ساحات الصراع العربية، وينطوي أيضاً على «مكاسب» جانبية، للإرادة الذاتية التي تقدم على تنفيذ جريمتها المرعية والمنظمة.
قد يقول قائل، لكن بعض العمليات الإرهابية شارك في تنفيذها مواطنون محتجون على أوضاعهم داخل بلدانهم، هذا قول فيه جانب صحيح، لكن الأصح أن الذي قولب الاحتجاج في قالب غير مدني وغير سلمي، هو صاحب الفكر الرديء الذي جاء من وراء الأفكار، وأن من سهَّل وشجَّع ودرَّب وموَّل، هو جمع المستفيدين، المباشرين وغير المباشرين، وعليه، يمكن التمييز بين جريمة «شخصية»، على غرار ما تشهده الولايات المتحدة الأميركية أو سواها، بين فترة وفترة، وبين الجريمة «الجمعية»، التي بات لها مؤسسون وآباء ومنظرون ودول رعاية وحماية.
ليس على أوروبا أن تراجع مسيرتها الانفتاحية إلا في اتجاه تطويرها وجعلها إنسانية أكثر، ليس على الآخرين، والعرب والمسلمين خصوصاً، إلاَّ أن يلحقوا بالعصر، من خلال إدانة الجريمة الإرهابية البشعة، ومن خلال هدم كل مرتكزاتها الاجتماعية والفكرية والسياسية.
* كاتب لبناني