IMLebanon

في الغوطة العصيّة

 

«لا بدّ من عملية برّية شاملة» في الغوطة الشرقية على ما رأت وترى موسكو. أي «لا بدّ» في رأي قيادتها من اجتياح تام للضاحية الدمشقية الأكثر كثافة، والوحدة الباقية خارج سيطرة المحور الروسي – الإيراني وملحقاته الأسدية، في عموم العاصمة ومحيطها.

 

ومعنى ذلك، أنّ موسكو قرّرت كسر قرارَين والتزامَين كبيرَين. الأول هو ذاك المتعلّق بما تمّ التوافق عليه في الآستانة في شأن كون الغوطة واحدة من المناطق الأربع المنخفضة التوتر في أقل الحسابات، والآمنة في أقصاها. والثاني هو قرار مجلس الأمن الأخير 2041 الذي دعا إلى وقف النار لمدة شهر والسماح بدخول قوافل الإغاثة إلى المحاصَرين.

 

.. ومعنى ذلك، أنّ موسكو، «وقّعت» في الآستانة ونيويورك ثمّ لحست توقيعها! ووافقت ثمّ نقضَتْ! وتعهّدت ثم خانت العهد! والتزمَت ثمّ تملّصت! وكأنها في ذلك، عصبة نصّابة وليست «دولة» وكبرى! وتتصرّف بكيديّة وخفّة وتنسف صدقيتها بيديها.. ثمّ تضرب ركناً مركزيّاً من أركان العلاقات بين الدول هو «الثقة» المتأتية عن احترام التواقيع والالتزامات والمعاهدات والمواثيق والقرارات المتخذة بعد مفاوضات ومحادثات ومناورات… إلخ!

 

ثمّ كأنّها دولة مارقة، تتوسّل الخداع والبلف لتحقيق مآربها، ولا تتوقف قليلاً أو كثيراً، أمام «القانون» الدولي! و«الشرعية» الأممية! ولا تقيم وزناً لأي قيم جامعة، إذا وقفت هذه في طريقها، مثلما لا تهمّها الوسائل لتحقيق الهدف بقدر تركيزها الشديد، على الوصول إلى ذلك الهدف!

 

سياسة إسرائيلية لكن بعنوان روسي!

 

إسرائيل لم تلتزم بأي قرار صادر عن الأمم المتحدة وهيئاتها المتعددة على مدى تاريخها. بما في ذلك القرارَين الأشهَر، 338 و242 اللذين وافقت عليهما غداة حرب العام 1967 في حضور وزير خارجيتها آنذاك آبا إيبان… ثم نقضت معظم الاتفاقات البينيّة المباشرة مع القيادة الفلسطينية في أوسلو وملحقاته! أي أنّ روسيا «السورية» تتشبّه بإسرائيل «الفلسطينية» وتستعيد أداءها وأساليبها! مع أنّ هذه دولة لصوصية قامت على البغي والعدوان وتلك دولة مركزية كبرى عمرها من عمر التاريخ الحديث وأحد أهم صنّاع هذا التاريخ!

 

وتشابه الأساليب ليس عبثاً صافياً: الضحيّة المستهدفة من قبل الدولتين واحد. هو العربي والمسلم الأكثري! وكأنّ ذلك في ذاته، يكفي لتبرير كل شيء! ولارتكاب المحرّمات بكل عناوينها وطقوسها وعموميّاتها وتفاصيلها! والغوطة الشرقية عنوان راهن، سوى أن روسيا تتوهّم قدرتها على سحق الحقّ السوري بالحرية، مثلما توهّمت وتتوهّم إسرائيل بقدرتها على سحق الحقّ الفلسطيني بالتحرّر!

 

.. ثمّ أن الغوطة الشرقية ليست شرق حلب! هناك ساومت تركيا وناورَت (مضطرّة أو مختارة!) ودفعت ثمناً «مؤلماً» لشراء تفاهم مع الروس في شأن أمن حدودها والحالة الكردية والوضع العام في الشمال السوري.

 

وذلك في جملته فَرَض تسليم المعارضة لمواقعها تسليم اليد إذا صحّ التعبير.. لكن هنا في الغوطة الدمشقية وضع آخر: لا أحد «مضطر» لأي صفقة، لا مع الروس ولا مع الإيرانيين ولا مع بقايا سلطة الرئيس السابق بشار الأسد! بل العكس. حيث تبدو المعركة الراهنة جزءاً من كباش خطير (متجدّد) بين الروس من جهة والأميركيين والأوروبيين من جهة ثانية!

 

لكن كي لا تكبر الخسّة في رؤوس جماعة ممانعة آخر زمن.. فإنّ مقاتلي الغوطة يملكون وحدهم (تقريباً!) تحديد الخطوة التالية لأخصام روسيا وأعداء إيران: كلما صمدوا وتشبّثوا بأرضهم وقواعدهم، إزداد ضغط هؤلاء وتحرّكهم لوقف المذبحة! وتصاعدت حدّة المواجهة السياسية والإعلامية (حتى الآن) مع «المحور» المهاجم، وفُتحت هذه (المواجهة) على احتمالات أخرى لا تسرّ خاطر الأسديّين!

 

وبمعنى أوضح: طالما أنّ «الصفقة» غير واردة عند أحد لإسقاط الغوطة. وطالما أنّ الحسم العسكري مُكلف، بل باهظ الكلفة، فإن توجّس الكثيرين يكبر من ذهاب الأسد مجدداً إلى استخدام الأسلحة الكيماوية وبغطاء روسي تام من أجل محاولة حسم الوضع ميدانياً.. ولذلك استنفرت، الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا لتوضيح مواقفها والتأكيد (المسبق) بأنها لن تعتمد سياسة أوبامية إزاء استخدام ذلك السلاح، بل إن الحساب سيكون عاجلاً وليس آجلاً!

 

.. الغوطة ليست شرق حلب. وأيضاً ليست غروزني! لكنّ روسيا هي ذاتها، ولم تعد تجد سوى التماثل مع إسرائيل والتمرجل على المدنيين لتأكيد عودتها إلى مصاف «الدول العظمى»!