جيد ومنعش أن يأتي مسؤول أميركي رفيع المستوى إلى بيروت ويكرّر مواقف بلاده الداعمة للاستقرار اللبناني في محوريه الأبرز والأهم: الأمن والاقتصاد.. وأن يُقارب التبليغ والإعلان والتكرار والتأكيد من زاوية غير حادّة عمادها الأساسي الفصل بين المواقف من “حزب الله” وبين سائر اللبنانيين، بما يشي بتفهّم حميد للواقع القائم، وعدم الدفع باتجاه خطوات توصل إلى تفطيس البلد وتحميله ما لا يُحتمل.. من دون الوصول إلى تحقيق أي هدف مُرتجى!
والأخذ بالواقع لا يعني التسليم به وبتبعاته، بقدر ما يعني مواكبة معقولة لحقيقة أن اللبنانيين الأخصام لـ”حزب الله” وارتباطاته الإيرانية والمتضرّرين منه ومن تلك الارتباطات يملكون الحقّ بمطالبة الأميركيين والغربيين عموماً بأمرين كبيرين. الأول هو عدم تحميلهم عموماً تبعات ارتكابات جزء منهم! والثاني عدم تحميلهم مسؤولية “معالجة” حالة صعبة أكبر منهم ومن بلدهم وأوسع مدى في تأثيراتها من مَدَياتهم المحلية.. وأعقد بالضرورة من خبريّاتهم الخلافية المستدامة الصغيرة والكبيرة.
وهذا هو “واقع” لبنان الفعلي وليس المتخيّل ولا الافتراضي. وما يعرفه الخارج تماماً وبدقّة، ويتصرف استناداً إلى ذلك الواقع وتلك المعرفة.. وهذان في صفوتهما يدلاّن على أن الانقسام المحلي التقليدي والطبيعي بحكم التنوّع المذهبي والطائفي السياسي، وصل في “تطوره” إلى الدولة ومؤسساتها بعد أن كان سابقاً، خارجهما وإلى حدّ معقول.. وإن هذا عنى في الآونة الأخيرة (أي منذ بدء سريان الوراثة الإيرانية للوصاية الأسدية) ضمور مساحة الرحابة التي تمتّع بها “لبنان الرسمي”. وتراجع مقدار “التفهّم” لأحواله غير الطبيعية! وعلى قاعدة الفصل بينه كمنظومة دستورية شرعية رسمية وبين “منظوماته” الحزبية والمذهبية والطائفية واستطراداتها الخارجية المعروفة!
.. وإن ذلك، أي وصول التطور الانقسامي إلى بنيان الدولة، عنى ولا يزال يعني وإن بحدود أخفّ في هذه الفترة من فترات سابقة، إزدواجية في المواقف إزاء الكثير من القضايا الخارجية ذات الصلة بأحوالنا.. بحيث أنه يمكن الادعاء مثلاً بأن هناك موقفاً “رسمياً” مضاداً لإيران وتابعها بشّار الأسد. وفي موازاة ذلك هناك موقف “رسمي” آخر ومناقض بالتمام!.. وهذه في جملتها، حالة صعبة لكنها صارت مقبولة إلى حدّ ما من قبل الخارج برغم (تكراراً) ضمور أو تراجع مستويات التفهّم والرحابة!
لا يمكن اتهام الأميركيين بنقض هذا الواقع أو الدفع باتجاه نسفه بعنف مثلما حصل سابقاً وفي محطات معيّنة واستناداً إلى ارتكابات ممانعة خطيرة ودموية وطالت أسس “الميثاقية” ومفردة العيش الواحد.. بل الواقع الراهن يدلّ على تلقّف أميركي للواقع اللبناني بدلاً من الدفع بذلك الواقع إلى مجاراة السياسة الأميركية العامة الداخلة في مواجهة مفتوحة مع الإيرانيين.. وهذا معطى إيجابي أكيد ويعني في بعض معانيه المهمة والكبيرة، أن مظلّة الطمأنة لا تزال تقي لبنان من احتمالات ومخاطر سيئة كثيرة، بعضها يتصل بإسرائيل وبعضها يتصل بتداعيات نغمة “إنتصار الأسد”! وبعضها يتصل بوعي تداعيات أي خلل داخلي كبير على قصّة الهدوء الحدودي جنوباً من جهة وعلى وجود أكثر من مليون لاجئ سوري من جهة ثانية.. ثم التصرف على أساس أن لبنان ساحة شدّ وجذب مع الإيرانيين ومشروعهم وليس ساحة حرب!
الجانب السلبي في هذه الصورة الإيجابية هو أن واشنطن تُظهر حُرصاً على الاستقرار اللبناني ما يعني أن طهران تتصرّف وتجد مصلحتها في هزّ هذا الاستقرار! وإن على البارد تبعاً لسلوكياتها المعتادة لأنها تعتقد أن ذلك يضير الأميركيين! أي وبأبسط لغة ممكنة: إيران تبتز الأميركيين والأوروبيين استطراداً من كيس لبنان! مثلما تفعل في اليمن والعراق! ولا يهمها في الواقع الحاد والمرئي والملموس حجم ومَديات معاناة رهائنها! وهذا في ذاته كافٍ لإدانة ذلك السلوك، بالسياسة والأخلاق والضمائر الحيّة.. عدا عن الاستمرار في العمل على صدّه ومواجهته!