مرة أخرى: ممارسات «الحشد الشعبي» في العراق، عنوان كبير لمشكلة أكبر.. وهي في اللحظة الراهنة اختصار كئيب ودموي وبأكلاف عالية وغالية للمعضلة المركزية التي حكمت وتحكمت بالوضع غداة حملة «أم الحواسم» وإنهاء دولة صدام حسين: حرب أهلية بوجوه كثيرة.
أول تلك الوجوه، أن «الدولة» السابقة ماتت لكن «الدولة» الجديدة لم تولد بعد ولا يبدو في الأفق المنظور أنها ستولد أبداً! وثانيها (وأهمها) هو تمكن العنصر الإيراني من إحكام إمساكه بالقرار وبأصحابه! وثالثها (وأخطرها) هو صيرورة التموضع المذهبي أهم من الهوية العربية العامة، للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث.
والمعطيات الثلاثة مترابطة وتردف بعضها بعضاً. «الدولة» السابقة التي ماتت مع صدام ونظامه وبعثه كانت تعبيراً (في رأي أهل الحشد الشعبي اليوم) عن غلبة مذهبية موشاة بإطار حزبي، قبل أن تكون اي شيء آخر! لكن بقدر ما يحتمل هذا التوصيف من جدل فإنه في المقلب الآخر، يوصل إلى توصيف مضاد لا يُنافس في صوابيته: البديل المذهبي الذي ركَبَ على السلطة والقرار لم يعرف (ولم يرد أن يعرف) كيف ينتج دولة بمواصفات أرفع مستوى من تلك التي وأدها الأميركيون وورث بقاياها الإيرانيون!
وليست ممارسات «الحشد الشعبي» بهذا المعنى وبغيره، سوى تفصيل على هامش النص الأصلي الذي يفيد أن «الدولة» العراقية المأمولة دونها والاكتمال أو النشوء عامل إيراني طابش وبطّاش. ووصل الصلف الذي يظهره إلى حد أن تُطرح في البرلمان الإيراني (تكراراً الإيراني وليس العراقي) دعوة إلى طرد السفير السعودي في بغداد ثامر السبهان لأنه «تجرأ» وهاجم الارتكابات المخزية والثأرية والانتقامية بحق المدنيين العزل في الفلوجة وجوارها.. ثم وصول أصداء تلك الدعوة (الإيرانية!) إلى شخصيات سياسية كانت محسوبة على التيار الأنتي إيراني، مثل أياد علاوي تحديداً؟!
في مقابل ذلك، كانت حكومة حيدر العبادي في بغداد، تعلن تعيين الجنرال قاسم سليماني مستشاراً عسكرياً لها! لتكتمل الواقعة بوجهيها المتناقضين ولتدفع إلى الأمام ذلك الافتراض القائل بأن حديث «الدولة» المأمولة في العراق يشبه في الواقع حديث التخريف والتحريف والتأليف!
صحيح أن المبالغات جزء من التاريخ العراقي الخالد وأحد أبرز طبائع أهله في الشعر والأكل كما في الحب والبغض وكما في الانسياب الآسر لذلك الماء العذب الفرات في الصحراء، بما يجعل من المتناقضات أمراً طبيعياً ومألوفاً. والصحيح أكثر هو أن ذلك البلد الجميل باقٍ أسيراً لمبالغاته ومتناقضاته حيث العروبة صارت شيئاً من الفرسنة، وحيث المذهب صار عنوان الانتماء، وحيث الغريب صار سفير السعودية، والقريب صار المفوّض السامي الإيراني!