لولا الحملات التي تتجدد بين فترة وأخرى على الدستور، وكذلك الدعوات التي تطالب بإعادة النظر فيه أو بـ”عقد جديد” و”مؤتمر تأسيسي” وما شابه من عبارات تستبطن مطالبة بدستور جديد، لما كان التوقف ضرورياً عند مرور 25 عاماً على وثيقة الوفاق الوطني التي تفاهم عليها مجلس النواب اللبناني في الطائف بالمملكة العربية السعودية عام 1989 برعاية سعودية وإقليمية ودولية، ومن ثم جرى إقرارها في مجلس النواب. فقد تم تعديل الدستور، وباتت هي جوهر الدستور الجديد للبلاد، ولكن “الكلام الكبير” من جهة، على “انتهاء صلاحية دستور الطائف” ومن جهة أخرى التذكير بأنه جاء بعد حرب استمرت 15 عاماً وأن لبنان لا يحتمل حروباً جديدة تأخذه الى المجهول بذريعة أن الدستور استنفد مفاعيله، يجعلان التوقف عند المناسبة أكثر من ضروري، والسؤال عن مكمن المشكلة: أهي في المضمون والنص أم في سوء التنفيذ، أم عدمه، أم في أداء الطبقة السياسية في لبنان أو معظمها على الأقل؟
يعتبر الخبير الدستوري الوزير السابق خالد قباني اذي واكب اجتماعات الطائف عن قرب وشارك في صنع وثيقة الوفاق الوطني أن “المشكلة لا تكمن في الدستور بل في سوء التنفيذ وعدم التنفيذ”. ويلفت الى أن “ما طبّق من بنود الدستور كان مجتزأ أو استنسابياً مما أدى الى جدل كبير وصراع حول الصلاحيات والمسؤوليات، في حين أن مضمون الوثيقة يهدف الى إدارة شؤون البلاد من خلال مشاركة الجميع في صنع القرار وتحمل مسؤولياتهم دون استبعاد أي مكون سياسي، واحترام التوازنات الطائفية، ومن أجل ذلك وضع الصلاحيات في مجلس الوزراء الذي تتمثل فيه، ولكن مسار الحياة السياسية جاء خلافاً لما أراده اتفاق الطائف، من هنا هذا الجدل الذي نسمعه من حين الى آخر والتساؤلات عما إذا كان لا يزال صالحاً وما الى ذلك من عبارات ومواقف تشكك في الدستور وتحمله مسؤولية سوء الإدارة!”.
ويلفت قباني الى بنود كثيرة لم تنفذ ويضرب أمثلة: “اللامركزية الإدارية وقانون الانتخاب، والإعلام والسلطة القضائية المستقلة وكلها بنود أساسية كان من شأن تنفيذها ولا يزال، تحقيق اصلاحات كبيرة على المستوى الاداري والمؤسساتي”.
ويشير الى “ضرورة العودة الى تطبيق بنود الدستور بكاملها، وهو ما يعزز بناء مؤسسات الدولة ودورها في انتظام الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية”.
ويرى أنه “لا يمكن الحكم على تجربة اتفاق الطائف من خلال الواقع السياسي الذي يعيشه لبنان اليوم ودون تطبيق بنوده، فالحكم على أي دستور أو اتفاق لا يمكن أن يكون واقعياً وصحيحاً إلا إذا طبّق كما يجب، وهكذا فان الحكم على الدستور يأتي بعد تنفيذ بنوده”. ويذكّر بأن “هذا الاتفاق جاء نتيجة مشاورات وندوات وأبحاث واقتراحات ساهمت فيها كل القوى السياسية والفكرية والدستورية بهدف الوصول الى قواعد دستورية تؤمن المشاركة الفعلية بين اللبنانيين وبناء مؤسسات الدولة. وبالعودة الى المضمون نجد أنه ركّز على تعزيز العيش المشترك من خلال تجسيده في قواعد دستورية ملزمة تجلّت في تنظيم السلطات وتوزيع الصلاحيات والمشاركة في الحكم والمناصفة في التمثيل السياسي والنيابي والوزاري والإنماء المتوازن… مرة جديدة، المشكلة تكمن في عدم احترام الدستور وعدم تنفيذ بنوده، وفي أحسن الحالات في سوء التنفيذ ومحاولات التفرّد التي أرادت وثيقة الوفاق الوطني استبعادها وتأكيد المشاركة الفعلية والمتوازنة ضمن أصول النظام الديموقراطي البرلماني، بعيداً من الاستئثار والمحاصصة وبما لا يؤدي الى تحوّل الأحزاب الى طوائف أو جماعات تدعي تمثيل الطوائف لزاماً في الحكم، وفي ذلك خروج على أحكام الدستور”.
وليس بعيداً من مناقشة مضمون الدستور، ولا سيما في شقها المتعلّق بتوزيع الصلاحيات، يرى مرجع سياسي أن اتفاق الطائف أحدث تحولاً مهماً في النظام الديموقراطي، اذ نص على إناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء ولم تعد في يد رئيس الجمهورية منفرداً، وهذه بالطبع ظاهرة أكثر ديموقراطية، فرئيس الجمهورية الذي كان يتولى السلطة التنفيذية بموجب دستور ما قبل الطائف لم يكن يخضع للمساءلة والمحاسبة، مع تمتعه بأوسع الصلاحيات، وهذه ظاهرة لا ديموقراطية، وأما بعد الطائف فقد أضحت السلطة الإجرائية من اختصاص مجلس الوزراء مجتمعاً، والذي يخضع لكل أشكال المساءلة والمحاسبة”. ويرى أنه “لا بد من العودة الى جوهر التغيير الذي نص عليه اتفاق الطائف، ولا بد من إنشاء الهيئة الوطنية لتجاوز الحالة الطائفية على مراحل، ولا بد من نظام انتخابي يضمن سلامة الوحدة الوطنية ولا يكون ذلك الا باعتماد الدوائر الكبرى المختلطة”.
ما أحوجنا الى كل ذلك في زمن الطوائف والمذاهب والتجمعات الفئوية…