لم يكن تأكيد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في كلمته في العاشر من محرم، أول من أمس، أن “العوامل السياسية ليست هي التي تحمي لبنان”، سوى خلاصة أجمل فيها قراءته للتهديدات الإقليمية المحدقة بلبنان.
وهو ما يفرض تعزيز معادلة “الجيش والشعب والمقاومة”، باعتبارها الخيار الأقل كلفة والأكثر جدوى وفعالية في مواجهة الأخطار الماثلة.
مع ذلك، يمكن للتطورات السياسية أن تساهم، في بعض المراحل، بدفع أو تأجيل أخطار العدوان الإسرائيلي. لكن ميزة هذا العامل أنه ظرفي. فقد تتحول مفاعيل هذه التطورات من عامل كابح للعدوان إلى ظرف ملائم له. وفي هذه الحال، يكون الأمن القومي والوجودي للكيان اللبناني مرتبطاً، حصراً، بالتطورات الدولية والإقليمية المحكومة بسُنَّة التغير على الدوام، الأمر الذي يفرض تبني خيار تطوير قدرات عسكرية تتكامل مع التطورات السياسية، أو تواجه الأخطار الكامنة فيها. وفي حال لبنان، بلحاظ ظروفه الجغرافية والسكانية والاقتصادية والعسكرية، تصبح الحاجة الى عناصر القوة أكثر إلحاحاً. وبالقياس الى ظروفه الإقليمية، تتحوّل عناصر القوة هذه إلى شرط وجود وبقاء.
كان لبنان، ولا يزال، هدفاً للعدوان الإسرائيلي. لكن موقعه في الأولويات الإسرائيلية، تاريخياً، كان متبدّلاً بحسب مسار التطورات الإسرائيلية والإقليمية والدولية. إلا أن العامل الذي استجد على دوافع العدو الإسرائيلي حقيقة اندحاره من لبنان وخروجه من دون أثمان. وتلا ذلك، تبلوره كقلعة صمود وردع في أعقاب نتائج حرب عام 2006.
في ما يتعلق بالمحيط المباشر للكيان الإسرائيلي، باتت إسرائيل تتمتع ببيئة إقليمية تنطوي على فرص استراتيجية أكثر ملاءمة لأمنها القومي. من الجنوب تربطها اتفاقية سلام مع مصر، ومن الشرق مع الأردن. وفي الداخل الفلسطيني، المشهد مركّب بين اتفاقية تسوية لها أنصارها، وحركة مقاومة تواجه طوقاً عربياً لمنعها من التصاعد والتطور. أما في ما يتعلق بجبهتها الشمالية، فتواجه إسرائيل معضلة استراتيجية تمثلت بصمود سوريا وتموضعها كعقدة مفصلية في محور المقاومة، رغم فتح جبهة داخلية ــــ خارجية عليها، أدت إلى إضعاف الدولة واستنزاف جيشها وتفجير مجتمعها، وإشغالها بمواجهة التهديد التكفيري.
في قلب هذه البيئة، يقف لبنان عصيّاً على الإخضاع، بعد تجارب ومحاولات سياسية وعسكرية باءت بالفشل، ومحصّناً في مواجهة التهديد العسكري التكفيري. والميزة التي يتمتع بها لبنان، تجعله استثناءً في المحيط المباشر لإسرائيل، وخنجراً في خاصرتها، ما يُعزِّز من دوافعها لاستكمال المخطط الذي يستهدف طوقها المباشر.
في بداية الأحداث السورية، بلغت الرهانات الإسرائيلية ــــ والإقليمية والدولية ـــــ الذروة إزاء أرجحية نجاح مخطط إسقاط الرئيس بشار الأسد وتغيير موقع سوريا ودورها الإقليمي. ويمكن التقدير أنه لم يكن هناك دافع ملحّ لإسرائيل، في تلك الفترة، للانقضاض على لبنان وحزب الله، باعتبار أن أهدافها المؤملة كان يفترض أن تتم عبر البوابة السورية. أجهض مسار الأحداث كل هذه الرهانات، فانتقل الرهان على إمكانية أن يتحول تدخل حزب الله في سوريا إلى سبب لإضعافه وتقويض قدراته الدفاعية والهجومية ضد إسرائيل. وهنا، أيضاً، لم تؤتِ هذه الرهانات ثمارها، بعد تحوّل دور الحزب إلى عامل أساسي ــــ من ضمن عوامل أخرى داخلية وإقليمية ــــ في منع سقوط سوريا.
هذا الواقع ينطوي على أكثر من اتجاه. الأول، ينطلق من فرضية أن مشاركة حزب الله الفاعلة في الساحة السورية يمكن أن توفر فرصة ملائمة لإسرائيل من أجل الانقضاض عليه. وما يُعزِّز ذلك أن التطورات السورية لم تحل دون استمرار تطور قدراته الاستراتيجية، بل أقرت التقارير الإسرائيلية المتوالية عن قفزات نوعية وكمية في هذا المجال، وهو ما دفع برئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو إلى رفع الصوت في أكثر من مناسبة للتحذير من مآلات هذا المسار.
ويهدف التلويح بالعدوان الإسرائيلي الواسع، على حزب الله ولبنان، إلى وضع الحزب بين خيارين: إما الانكفاء عن الساحة السورية لمواجهة أي عدوان إسرائيلي واسع، وبالتالي فتح الطريق أمام التهديد التكفيري للتمدد والانقضاض؛ أو خوض مواجهة على الجبهتين الإسرائيلية والتكفيرية. كذلك، ينطوي الدور الفاعل لحزب الله في سوريا، من منظور المخطط الأميركي الذي يستهدف تعديل مجرى التطورات الميدانية وكجزء من الضغط على الواقع السوري، على دافع إضافي لفتح جبهة جديدة على حزب الله تؤدي، بالحد الأدنى، إلى إشغاله واستنزافه وضرب قدراته. وعلى هذه الخلفية، فإن الظروف السياسية أكثر من ملائمة للعدوان الإسرائيلي، بل تشكل دافعاً ملحّاً وقوياً لشنه.
ضمن هذا الإطار، كان من الطبيعي أن يُكمل الأمين العام لحزب الله الرؤية التي قدمها حول دور العامل السياسي، بموقف حاسم مفاده أن “المقاومة الإسلامية لن تخلي الميدان في مواجهة إسرائيل”، مع ما يعنيه ذلك، من إدراك للعلاقة التبادلية بين جبهتي مواجهة التهديدين التكفيري والإسرائيلي، وما يترتب على ذلك من خطط للتعامل مع هذين التهديدين.
يكشف ما تقدم، وبشكل جلي، حجم الدور الذي تلعبه قوة الدفاع والردع لحزب الله في حماية لبنان من أي عدوان إسرائيلي. مع الإشارة إلى أن إسرائيل حاولت، بشكل مدروس أكثر من مرة، توسيع نطاق اعتداءاتها من سوريا إلى لبنان، لكنها جوبهت بما كشف لها إرادة حزب الله بالرد الرادع، بموازاة المعركة مع التهديد التكفيري.
وما يجعل قوة ردع حزب الله أكثر تألقاً وخصوصية، أن إسرائيل التي بلغت من القدرات العسكرية والتكنولوجية ما لم تشهده طوال تاريخها، وتتمتع ببيئة إقليمية غير مسبوقة، شطبت تهديد الجيوش النظامية، في المدى المنظور، ووفرت لها حماية مثالية لأمنها القومي… وكل ذلك في ظل انشغال حزب الله بمواجهة التهديد التكفيري في سوريا ولبنان. في هذا الواقع بالذات، تخضع إسرائيل لمعادلة الردع مع حزب الله، رغم الظرف الإقليمي. ونتيجة ذلك، لم تجرؤ حتى الآن على المبادرة إلى اعتداءات تهدف إلى تحقيق ما لم يتحقق في حرب 2006، تضاف إليها أهداف تتصل باللحظة الراهنة في الساحة السورية.