قرّر البنك الإحتياطي الفدرالي في إجتماعه الأخير رفع معدلات الفائدة إلى ما بين 1.5 و1.75%. هذا الإجراء ستكون له تداعيات على الداخل الأميركي كما على إقتصادات العديد من الدوّل الأخرى وعلى رأسها لبنان. فما هي خفايا هذا القرار وكيّف يُمكن الإستفادة منه لبنانيًا؟
من المعروف أن مهام المصارف المركزية تبقى بالدرحة الأولى ضمان ثبات أسعار الصرف، وهذا الأمر يمرّ إلزاميًا عبر السيطرة على كميّة العملة المطروحة في الأسواق.
وتحقيق هذه السيطرة هو أمر شبه ميكانيكي يتمّ من خلال أسعار الفائدة التي يُمكن التعريف عنها بأنها سعر إقراض الأموال. وتتألف أسعار الفائدة من شقّين أساسيين: الأول سعر الفائدة الذي يستخدمه المصرف المركزي لإقراض المصارف (إستحقاقات قصيرة الآمد) والثاني أسعار الفائدة على الودائع. وتسمّى أسعار الفائدة هذه بـ«المعدلات الرئيسية» لأنها تؤثرّ بشكل رئيسي على الفوائد التي تُقرض على اساسها المصارف التجارية على الأمد القصير.
بقيت أسعار الفائدة في الولايات المُتحدة الأميركية قريبة من الصفر منذ كانون الأول 2008 حتى كانون الأول 2015 لتبدأ بعدها موجة رفع أسعار الفائدة. وأخر قرار لمجلس الحكام الإحتياطي الفدرالي نصّ على رفع مُعدّل الفائدة بـ25 نقطة أساس لتتراوح معها المُعدّلات الأساسية بين 1.5 و1.75%. وتمّ تبرير هذا القرار بتحسّن مؤشرات الإقتصاد الأميركي مع توقّعات بالنمو تفوق الـ 2.7% هذا العام مما يعني أن نسبة النمو تقترب مما توقّعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
رفع الفوائد له حسناته وسيئاته، ومن بين الحسنات مُحاربة التضخمّ الذي يؤثّر على مستوى الأسعار وبالتالي يقتل النمو الإقتصادي. إلا أن السيئات تبقى أكثر بكثير وعلى رأسها التأثير السلبي على الإستثمار والإستهلاك في وقت لم تظهر بعد قوّة الإقتصاد الأميركي الجوهرية (Intrinsic) أي الآتية من عمل الماكينة الإقتصادية وليس من التحفيز الذي يقوم به المصرف المركزي. فما هي إذًا خفايا هذا القرار؟
رفع الفوائد والسياسة الحمائية
لا يُشكّك أحد بصوابية قرار الإحتياطي الفدرالي، إلا أن الإشارات التي يُرسلها المصرف إلى الأسواق غير مُقنعة أللهم إلا إذا كان هناك من قطبة مخفية يجب البحث عنها في السياسة الحمائية للرئيس الأميركي ترامب.
فالأرقام تُظهر أن عجز الميزان التجاري الأميركي في العام 2017 بلغ 862 مليار دولار أميركي منه 396 مليار آتٍ من الصين وحدها. وهذا الأمر يعتبره ترامب غير مقبول لأنه يضرب الشركات الأميركية وسوق العمل في الولايات المُتحدة الأميركية ويخلق تدفق أموال هائلا خارج الولايات المُتحدّة الأميركية.
لذا تأتي خطوة ترامب بفرض رسوم على الصين لتوفير ما يُقارب الـ 60 مليار دولار أميركي ممزوجة بتوفير ناتج عن رفع الفوائد مما يدعم العملة الأميركية وتؤدّي إلى خفض سعر برميل النفط المُستورد أي خفض الكلفة على الإقتصاد الأميركي.
إرتفاع أسعار الفائدة ستكون له أيضًا تداعيات على تدفق الأموال إلى الولايات المُتحدة الأميركية حيث ستدعم هذه الأموال الإستثمارات في الشركات الأميركية من خلال بورصة نيويورك بالتحديد والتي تحوي على أكثر من 60% من إستثمارات العالم في البورصات.
وبالتالي، يُمكن القول أن التداعيات السلبية المباشرة على الداخل الأميركي والتي يُمكن إختصارها بزيادة الكلفة على الشركات الأميركية وعلى المُستهلك الأميركي الذي يعتمد على القروض بشكل كبير (عقارات، قروض إستهلاكية، قروض طلاب…)، هذه التداعيات سيتمّ محوها على الأمد القصير إلى المتوسّط من خلال زيادة الإستثمارات جرّاء الرساميل التي ستتدفّق إلى الولايات المُتحدة الأميركية مما سيزيد من نسبة التوظيف وبالتالي الإستهلاك الذي سيذهب قسم كبير منه إلى الماكينة الإقتصادية الأميركية بحكم رفع الرسوم الجمركية على البضائع الأجنبية.
وبهذا تكون لخطوات ترامب الحمائية ممزوجة بقرار الإحتياطي الفدرالي، تداعيات إيجابية مباشرة على الإقتصاد الأميركي وعلى نموّه الذي يُعاني كثيرًا منذ أزمة العام 2008 المالية.
كثير من الدوّل سيتضرّر
يأتي شعار ترامب «أميركا أولًا» ليُثبت بشكل غير مباشر حقيقة الضرّر الناتج عن قرارات الإدارة الأميركية والإحتياطي الفدرالي والذي سيطال العديد من الدول التي لها تبادل تجاري مع الولايات المُتحدة الأميركية ولكن أيضًا الدول المُنتجة للنفط والدول التي تربط عملتها بالدولار الأميركي.
تأتي الصين على رأس الدول المُتضرّرة والتي تُعتبر أكبر دائن للولايات المُتحدة الأميركية من خلال محفظة سندات الخزينة الأميركية التي تمّتلكها. بالطبع الصادرات الصينية إلى الولايات المُتحدة الأميركية ستقلّ مع رفع ترامب للرسوم الجمركية على البضائع الصينية المُستوردة.
وإذا كان للصين هامش الردّ عبر التخلّي عن سندات الخزينة الأميركية، إلا أن هذا الإجراء سيضرّ بعملتها وسترتفع قيمتها حكمًا وبالتالي سيكون الضرّر على الصادرات الصينية للدوّل الأخرى هائلا.
لذا نرى أن الصين قدّ تلجأ إلى عدد من الخطوات التصعيدية مثل المعاملة بالمثل على البضائع الأميركية المُستوردة وتخفيض قيمة عملتها أكثر لتعويض رفع الرسوم الجمركية الأميركية. ومهما كان السيناريو الذي ستتبعه الصين، الأكيد هو أن النمو الصيني سيتراجع نتيجة قرار الرئيس ترامب.
الإتحاد الأوروبي سيتضرّر أيضًا جرّاء رفع الفائدة الأميركية حيث سنشهد حركة نزوح لرؤوس الأموال من الأسواق الأوروبية إلى الولايات المُتحدة الأميركية خصوصًا أن الفائدة في الإتحاد الأوروبي توازي الصفر مقابل 1.75% في الولايات المُتحدة الأميركية.
والردّ الأوروبي قد يكون بفرض ضرائب إضافية على عائدات الإستثمارات الأوروبية في الأسواق الأميركية كما مبدأ المُعاملة بالمثل إذا ما قام الرئيس ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية على البضائع المُستوردة من الإتحاد الأوروبي.
من جهة الدول النفطية والدوّل الصاعدة، سيأتي الضرّر من هروب رؤوس الأموال من هذه الدول خصوصًا الدول المُنتجة للنفط والتي ستشهدّ عجزًا في إستثماراتها النفطية. بالطبع هذا الأمر سيُخفّض النمو الإقتصادي في هذه الدوّل.
لبنانيًا
على الصعيد اللبناني، سيكون لرفع الفوائد في الولايات المُتحدة الأميركية تأثيره على كلفة الدين العام اللبناني بالدولار الأميركي والتي قد تزيد بحدود الـ 100 إلى 200 مليون دولار أميركي وأكثر إذا ما إستمرّت وتيرة رفع أسعار الفائدة هذا العام لتبلغ حدًا أقصى بحدود الـ800 مليون دولار أميركي إذا ما طُبّقت كل توقعات الإحتياطي الفدرالي برفع الفائدة.
عمليًا، يُمكن للبنان أن يستفيد من إرتفاع سعر الفائدة عبر جذب رؤوس الأموال إلى الداخل اللبناني. إلا أن الإستفادة الحقيقية من هذه الأموال في الماكينة الإقتصادية لن تحدث إلا إذا قامت الحكومة اللبنانية بإصلاحات إقتصادية تسمح بتحقيق نسب الفوائد المطلوبة من المُستثمرين (required Interest rates).
في الختام، لا يسعنا القول إلا أن على لبنان أخذ التجربة الأميركية بالإعتبار ومُحاولة تقوية الماكينة الإنتاجية اللبنانية للجم عجز الميزان التجاري. هذا الأمر يمرّ إلزاميًا بمجموعة من القوانين وعلى رأسها محاربة الفساد والتحفيز الضريبي.