لم يكن الإعلان عن قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في 16 أيلول 1982مجرد تأكيد من الشيوعيين اللبنانيين على مواصلة القتال ضد المحتل الاسرائيلي الذي دخل الى بيروت يومها، فهؤلاء نشطوا، إلى جانب انخراطهم في الحرب الأهلية، في مواجهة الغزوات الإسرائيلية قبل اندلاع تلك الحرب، واستمروا في “مقاومتهم” تلك خلالها، فما الحاجة إذن إلى اعلان قيام جبهة للمقاومة الوطنية في أيلول من عام الاجتياح؟
انطباعي أن الدافع إلى ذلك الإعلان يكمن في ظروف اللحظة التي أملته. قبل ساعات كان جرى اغتيال “الرئيس المنتخب” بشير الجميل، ثم ارتكبت مجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا بإشراف قوات الاحتلال التي اندفعت الى داخل بيروت بعد فرضها طرد قوات منظمة التحرير منها.
جاءت ولادة الجبهة بمثابة إعلان أقوى في بعده السياسي من مضمونه العسكري الميداني الذي سيتبلور لاحقاً نمواً وفعالية. كانت لحظة حسّ سياسي سليم اعتقد اليسار اللبناني المحاصر والمهزوم أنه عبرها يمكن أن يضرب عصافير عدة بحجر واحد، فيمنع ارتدادات اغتيال بشير الجميل على المستويات الاهلية، ويحاصر انعكاسات مجزرة صبرا وشاتيلا، ويحوّل المعركة في اتجاه وحيد مطلوب هو إخراج الاسرائيلي بقرار شعبي لبناني جامع.
كان إعلان الجبهة بهذا المعنى أشبه بالإفصاح عن رغبة عميقة بضرورة وضع حد للحرب الأهلية بتحويلها إلى حرب وطنية تحريرية، وتلك كانت المرة الثانية التي حاول خلالها اليسار تخطي استعار القتال الأهلي الذي يتحول بفعل عوامل عدة الى مجازر طائفية.
جرت المرة الأولى في بداية الحرب إثر ما عرف بالسبت الأسود (6 كانون الاول 1975) عندما اختطف أربعة من عناصر حزب الكتائب البارزين وقتلوا ما أثار ردود فعل ذهب ضحيتها عدد غير معروف من المواطنين المسلمين. كان يمكن للردود الطائفية أن تنهي الوجود المسيحي في بيروت الغربية ومناطق مختلطة أخرى وهذا ما كان يطمح إليه المخططون، من الذين وضعوا يدهم على البلاد بالتناوب… إلا أن الهواجس نفسها التي أملت على جورج حاوي ومحسن ابراهيم اتخاذ القرار بالدعوة الى قيام جبهة المقاومة في أيلول 82، جعلتهما يسارعان إلى استبدال مجازر الطوائف بفتح معركة مباشرة بين الميليشيات “الوطنية” والأخرى “الانعزالية” كما في تسميات ذلك الزمان، ما جنب الأحياء الأهلية البعيدة عن خطوط التماس تصفيات إجرامية لا حدود لها.
الحس السياسي السليم هو الجامع بين تجربتين مختلفتين، وهو ربما ما يحتاجه لبنان اليوم لتحقيق هدفين متلازمين: تثبيت السلم الأهلي واستعادة السيادة والاستقلال لبلد ديموقراطي حرّ ومزدهر.