لا ينقص الوضع اللبناني المزيد من البؤس. وهو في كل حال، فيه ما يكفيه ويفيض عنه!
ولا يحتاج عالم البداهات المحروقة الذي نعيش في ظلّه، إضافات أخرى من نوع العودة إلى امتطاء شعار «المجتمع المدني» فيما الناس تزداد عسكرة! وفيما الاصطفافات الطائفية والمذهبية (والسياسية الغلافية!) سافرة وفي ذروة عُريْها.. وفيما المكر يماثل البلاهة في ادّعاءات لا صلة لها بأي واقع قائم (أو قاعد!).
وفي حدود الخفر والستر يمكن أن يُقال، إنّ الشيزوفرانيا صارت أو تكاد واحدة من خصال وطنية جامعة وعامّة. وأنّ ذلك مرض وليس مكرمة أو فضيلة حميدة! وأن اللبنانيين «جادّون» في ترسيخه، ثمّ في التنظير لكيفية الشفاء منه!
أي تماماً، مثل ذاك الذي يحمِّل لبنان وأهله أثقالاً تنوء بثقلها دول عظمى، من خلال مشروعه وحزبه وعسكره وسياساته وارتباطاته الاقليمية، لكنه لا يتردّد في إعطاء محاضرات عن كيفية تمويل نفقات مشروع زيادة الرواتب.. (التي بالمناسبة توازي تقريباً مردود معبر حربي واحد من تلك المعابر التي تأخذ من درب الخزينة العامة لصالح المجهود الحربي!) أو في استحضاره الهمّ الطبقي في كلامه فيما هو زبدة حالة مذهبية صافية تعادي على الهوية الدينية! ولا تفرّق خلال «سعيها» المحلي والاقليمي، في معاداة واستهداف جموع بشرية كاملة، من دون لحظ الفوارق الطبقية فيها! بل من دون لحظ أي مرثيات إنسانية مشهودة ازاءها!
.. أو مثل ذلك المخضرم الأمني الذي نزل للمشاركة في تظاهرة وسط بيروت ضدّ «الطبقة السياسية الفاسدة» فيما هو يُعتبَر من أبرز أصدقاء ومريدي وناصحي رأس سلطة «نقيّة» عزّ نظيرها في عالم اليوم، اسمه بشار الأسد! ومن أبرز مستشاريه في شأن أفضل السُبل الممكنة لحفظ المال العام والثروات الوطنية! والذود عن دولة القانون! واحترام حقوق البشر! وترسيخ الممارسة الديموقراطية في أجلى وأنصع ظواهرها السورية: من القتل والسحل إلى التنكيل والتهجير! ومن السكاكين والرصاص إلى السلاح الكيماوي وما بينهما من محتويات «صناديق الاقتراع»!
.. هو نفسه المستشار الأسدي هذا، يدعو إلى «رحيل الطبقة السياسية الفاسدة» في لبنان!
على أن ظواهر البؤس في التركيبة الكيانية، الشخصية والعامة في بلدنا، سابقة على الدربكة الراهنة، وتكاد أن تواكب ظهور الجمهورية وظيفياً، وتسبقها «اجتماعياً» تحت ظلال سلطة الاستعمارين الفرنسي وقبله العثماني المديد: هناك شيء «أصيل» في بؤس اقتصاد الخدمات هذا سمح بتكوُّن وازدهار نمط من التبادلية الزبائنية، لا يمكن إلاّ أن يكون موبوءاً وعلى حساب المشاع العام! وأن تمتد آلياته وعاداته من الشارع إلى الدولة. ومن القطاع الخاص إلى القطاع الرسمي الشرعي، وبالعكس!
يمكن الزعم والاستطراد، أنّ هذه الحالة «الأصيلة» عصيّة على الكسر في أساسها، فكيف الحال، وقد زادت عليها أكلاف محاولة عسكرتها بحجّة «المقاومة» و«ضروراتها» وسياساتها؟!