في واقع مشحون بكل الاخطار المتصورة وغير المتصورة كالذي يعيشه لبنان تبدو مقاربة الواقع العاطفي لوفاة هامة فنية فذة حدثا بذاته يفوق بدلالاته اي حدث آخر. يعيدنا رحيل الشحرورة صباح الى ما قد يكون كل لبناني قد أشعله فيه الحنين الى لبنان يشعر في يومياته البائسة انه يذوب ويذوي وبالكاد بقي منه ذكرى مشدودة الى “ايام العز” ومواسمها. لا تتصل فورة عاطفية جارفة بالتعلق فقط بمشاهير مقدار ما تستبطن شعور الهلع بافتقاد رموز ذلك الزمن الجميل الذي كان كل شيء فيه افضل بمعايير المقارنة بواقع ينقب فيه اللبنانيون عن ماض كان بكل معاييره افضل من حاضرهم وواقعهم وربما افضل من مستقبلهم. بات الافراط في استعمال مفردة الأيقونة والأسطورة حتى لو استحقها راحلون مثل صباح اشبه بنشيد حنين الى قامات تختصر الأحلام الكبيرة. وليس غريبا والحال هذه ان تقيم الراحلة الكبيرة في “يومها” آخر واهم مآثرها لا الفنية والشخصية فحسب بل “الوطنية” والوجدانية ايضا اذا صح التعبير. مأثرة وحدة لبنانية جارفة تقول انه لا يزال هناك خير وفير في اللبنانيين. تلك اللهفة الحزينة التي عكستها مشاعر متوقدة حيال رحيل ابنة بدادون التي يصدح صوتها وحضورها الفرح في وجدان اللبنانيين منذ اكثر من نصف قرن هي من معالم اسقاط مفاهيم سائدة باتت تصور اللبنانيين أهل فرقة وقبليات وتصحر ثقافي وحضاري.
ولعل ما ينطبق على رحيل مؤثر لفنانة عظيمة ينطبق بمثله على قامات سياسية اوثقافية عظيمة سبق ان عاينا كيف أقاموا في ايام رحيلهم ما يفوق بأهميته ما تركوه في سير حياتهم من انجازات مشرقة. لذا ترانا لم نتنبه ربما الى ان رحيل صباح استحال بمثابة رش للوجوه بمياه باردة وإعادة تصويب البوصلة الى الجانب الدافئ الخامد فينا وهو ان معظمنا لا نزال ابناء لبنان “القديم” في حنين الى ما يرمز اليه من جمالات تعرضت في زمننا هذا لأفظع الانتهاكات والبشاعات.
كيف يكون الحزن عابرا لكل البشاعات والانقسامات لو لم تتفوق فيه الانسانية الخالصة على كل ما فرض على اللبنانيين او فرضوه على انفسهم بغفلة من حروب وتبعيات مسحت او كادت تمسح تألقا لبنانيا مشهودا في هذا الشرق؟ قد نكون امام معادلتين ومفارقتين الان تحديدا. الخطر على لبنان الذي يوحد ابناءه الخائفين، وكذلك الخشية من اندثار رموز خارقين يذوب مع رحيلهم ذلك الوطن المثالي الذي اقاموه في مخيلاتنا. وكلاهما يفترض ان يحفز اللبنانيين على الانقلاب على واقع بشع ولو بالاستعانة بالحنين الى شيء كثير من الماضي. فهل أقسى من واقع كهذا ما دام يكشف جسامة الخوف من المستقبل؟