لا
في بداية السبعينيات من القرن الماضي انطلقت حركة بيئية من طراز خاص في مرتفعات الهيملايا الهندية من جهة جاروال. هبّ أهالي القرى، وبشكل أساسي نساؤها، للدفاع عن الغابات المعرّضة لاستباحة المنشار الحكومي ومنشار الشركات. التفّت النسوة حول جذوع الأشجار، مستأنسة بمرويات كفاحية مأسوية من هذا الصنف تعود الى قرنين وثلاثة الى الوراء. فكانت حركة الالتصاق بالأشجار لحمايتها، أو ما عُرف بـ «حركة الشيبكو». واصلت حركة الشيبكو نضالها على مدى السنوات، وفرضت أجندة بيئية متقدمة في المناطق التي شاعت فيها. اعتصمت بحبل «اللاعنفية» الغاندية، ودمجت بين البيئوية والنسوية والتجذر القروي.
لبنان في الأيام الأخيرة يئن تحت كارثة نفايات فيها من الاضرار بصحة المواطنين الشيء الكثير وفيها من الاذلال أكثر. لكن نموذج «حركة الشيبكو» لا يستهوي النضال البيئي في لبنان على ما يبدو. هنا يطغى نموذجان مقابلان للتحركات التي ترفع شعارات بيئية. النموذج الأول هو الذي تكاد تشعر أن خطابه «التوعوي» مدبلج، إنه خطاب «المنظمات غير الحكومية»، يتعامل مع الوعي البيئي على أنه شيء تضخه الى البلد من خارجه، أو يبدو يائساً من الانصات الى مظاهر تذكّر بـ «حركة الشيبكو»، تنبثق من واقع المناطق اللبنانية الخضراء نفسها. أما النموذج الثاني فشعبوي، المطلب البيئي عنده مناسبة لإخراج التبسيطية نفسها، والحكاية نفسها: «طبقة سياسية» فاسدة بكليتها، وشعب متآمر عليه ومغلوب على أمره. هناك طبعاً خلطات عجيبة بين هذين النموذجين. هناك كثير من الصوابية في ما يتعلّق بعدم اعفاء أي فريق سياسي من اضراره بالبيئة، لكن هناك الكثير من الصبيانية في اختصار الموضوع بطبقة متآمرة وشعب متآمر عليه.
في الحالة العنفية في الأيام الماضية كل ما يناقض نموذج «حركة الشيبكو». نسوة «الشيبكو» التصقن بلحاء الشجر. «تقطعونها تقطعوننا»، كان هذا موقفهن الحاسم. حركتهن كانت بيئية ونسوية في الوقت نفسه، والجمعة بين المستويين كانت لاعنفية غاندية ومنبثقة من مبادرات الفلاحين وأهل الغابات أنفسهم. وهذا ما ألهم لاحقاً الكثير من الحركات البيئية الاجتماعية التي استلهمت تجربة «الشيبكو».
ناشطة «حركة الشيبكو» التصقت بالشجرة لحمايتها. لا يمكن تطبيق هذا النموذج بالنسبة الى ما الذي ينبغي ان يقوم به ناشط بيئي أو مدني في لبنان في مواجهة كارثة النفايات الحالية. لكن حداً أدنى من الوعي البيئي يفترض به ان لا يمسك بأكياس النفايات من مزبلة في منطقة معينة ليرميها تعبوياً في منطقة أخرى. هذه العنفية، وهذا الطابع «الذكوري التشبيحي» يطرحان نموذجاً نقيضاً لكل تجربة «حركة الشيبكو».
هل معنى هذا ان نهجاً مماثلاً لـ «الشيبكو» يصلح فقط لبنانياً لحماية حرش أو غابة وليس له علاقة بالنضال البيئي المطلوب اليوم؟ أبداً. نهج الشيبكو كلي الراهنية في لبنان اليوم. أساسه التذكير بأنّ المناضلين الحقيقين لمعالجة كارثة بيئية ما من صنع بشر عليهم عدم استخدام التلوث نفسه كوسيلة في مواجهة التلوث. ان تستخدم اكياس النفايات كسلاح ترميه هنا او هناك، فكم ان هذا مختلف عن النسوة اللواتي اتحدن بلحمهن الحي بالأشجار لحمايتها. وسائل النضال البيئي تكون بيئية أو لا تكون. لا يمكن أن يكون النضال البيئي عنفياً وتلويثياً، ولا يمكنه ان يكون جدياً الا بالتمييز في حال لبنان اليوم بين مستويين: الدفع المباشر للضرر المباشر الواقع على صحة الناس، والمتابعة للملف بعد هذا الرفع للضرر. كل طرح يقول انه «لو سكتنا الآن سيقفل الملف» هو طرح ممجوج. لان اساس الفكرة البيئية اللاعنفية هو الصبر. ليس الصبر على منظر النفايات يتراكم في شوارع العاصمة الى ان تنشب الثورة. بل النضال الصبور بعد الاتفاق على رفع الضرر المباشر فوراً، من أجل معالجة جذرية شاملة، لا تكون الشركات الاحتكارية الطرف المطبق عليها، وتندرج في أفق لامركزي ما عاد يقبل التسويف والتمييع، وتعتمد الفرز من المصدر نهجاً يومياً في حياة الناس، وكذلك تأخذها مناسبة لترشيد الاستهلاك، وتخفيض كل استهلاك مضر بالبيئة. أخطر ما في معزوفة «لو تركناهم يطمسون النفايات الآن لضاعت القضية» هو أن معتمدي هكذا مقولة لا يمكن التعويل عليهم كقدوة في تقدم الناس نحو الكفاح البيئي المتكامل المطلوب، وهم بحركتهم المسحورة باللحظة، يقدمون خدمة جليلة لـ «الطبقة السياسية» كونهم يهدئون من روعة الغضب الشعبي عليها، ويوحون لأغلبية الناس بأن هذا الغضب لا يمكن الا ان يكون عنفياً، انفعالياً، فجائياً، وان يتحول بسرعة الى بازار سياسي وأمني على ما شهدناه.
الازمة البيئوية عميقة جداً. لا خوف عليها من ان يطمسها اي كان. قضية النفايات وجه من وجوهها فقط. هذه الازمة البيئية ما عاد يمكن الركون حيالها الى ثنائية «دبلجة» المنظمات غير الحكومية وعنتريات «الفتونة» الشوارعية. حركة شيبكو لبنانية هي اكثر من كل وقت في أمر اليوم، ولا يمكن الا ان تكون حركة نقيض لكل هذا الهيكل، إنما بالالتصاق بالأشجار، برفض استخدام وسائل غير بيئية للدفاع عن البيئة، بالاصرار على لاعنفية الحراك البيئي، بالتشديد على الالتحام العضوي بين النسوية والبيئوية وليس بين البيئوية وتشبيحات «قبضايات الموسم»، وأيضاً بالتشديد كما «حركة الشيبكو» التي كانت بنت منطقتها ومجتمعها القروي، على الدور الاساسي للذاتيات البيئية المناطقية، وهذه لا تكون فقط بمنع شاحنة تقل نفايات من ان تفرغ حمولتها، بل بمنع الكسارة عن تهديم الجبل حيث تهدم، وحماية الغابات والأحراش حيث هي مهددة، وهكذا.