ليست المشكلة في أن تنتهي جولة الحوار الثلاثية التي انعقدت هذا الأسبوع بما انتهت اليه من «لا شيء»، بل إنّ الخشية الحقيقية في أن تنتهي الجولات المقبلة بما لم تنجح الجولة الأخيرة في الوصول إليه من توزيع وإعادة توزيع لمواقع السلطات الدستورية على الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية وفقاً لمساومة جديدة على حساب سيادة الدولة، بحجّة الحفاظ على الإستقرار السياسي بعيداً عمّا نَصّ عليه اتفاق «الطائف» والدستور الذي انبثق عنه.
كل النقاشات والسجالات الخاصة بظروف انتخاب رئيس للجمهورية وقانون جديد للانتخابات النيابية وإقامة مجلس للشيوخ وإطلاق اللامركزية الإدارية وغيرها من الإصلاحات السياسية التي نصّ عليها اتفاق «الطائف» أو لم ينصّ، تبقى تفصيلاً صغيراً في مقابل التخلّي عن القاعدة الاساسية والجوهرية لقيام أيّ دولة، وهي مرجعيتها الحصرية في كل القرارات والسياسات الداخلية والخارجية والإقتصادية والمالية والدفاعية والعسكرية والأمنية وغيرها من الإختصاصات الحصرية للدول والحكومات والمؤسسات الدستورية.
لقد سبق للبنان أن عاش في مرحلة التحضير للحرب الأهلية والتأسيس لظروف إنتاجها منذ نهاية ستينيات القرن الماضي وحتى منتصف سبعينياته حالة مشابهة من المساومة على سيادة الدولة في مقابل الحفاظ على بعض مواقع السلطة ولو مُفرغة من مضمونها وصلاحياتها الفعلية.
يومها، كان سلاح منظمة التحرير الفلسطينية هو السلاح الخارج عن منطق الدولة اللبنانية وقوانينها، بذريعة مقاومة إسرائيل. وعوض أن يكون الحلّ الذي اعتمد للتعاطي مع هذا السلاح مبنياً على مبدأ سيادة الدولة اللبنانية التي لا يجوز أن تجتزأ أو أن تنتقص أو أن يكون لها شريك محلي أو خارجي، جاء الحلّ على حساب هذه السيادة وعلى قاعدة المساومة بين السيادة والسلطة بحجّة الحفاظ على الاستقرار ومنع انفجار الحرب والمواجهات.
وهكذا تحوّل «اتفاق القاهرة» الذي تخلّت بموجبه الدولة اللبنانية عن حقوقها السيادية بموافقة معظم الفرقاء الحزبيين والسياسيين اللبنانيين الممثلين في مجلس النواب وغير الممثلين فيه، من «شرٍّ لا بد منه» لمنع الانفجار والحفاظ على الاستقرار السياسي والتوازنات اللبنانية الداخلية الهَشّة، الى حرب أهلية لم ينفع تخلّي الدولة اللبنانية عن جزء من سيادتها لمنظمة التحرير الفلسطينية في تلافيها.
نستذكر هذه الوقائع التاريخية، لنُحذّر من أنّ المحاولات المبذولة منذ العام 2006 لصرف نظر اللبنانيين في كل جولة من جولات الحوار عن ضرورة إيجاد حلّ للمعضلة المتثّملة بسلاح «حزب الله»، وتحويل البحث الى قضايا وملفات على علاقة بالمحاصصات والمواقع والمناصب، بحجّة الحفاظ على الاستقرار ومنع الانفجار الداخلي بين اللبنانيين، والحفاظ على مؤسسات الدولة من خلال صفقة جديدة تتخلى فيها الدولة عن حقوقها السيادية لـ«حزب الله» في تكرار لسابقة التخلّي عن هذه الحقوق لمنظمة التحرير الفلسطينية، سينتهي بما انتهت اليه الأمور نتيجة لـ«اتفاق القاهرة» من حروب داخلية وخارجية تدفع ثمنها الدولة اللبنانية والشعب اللبناني.
فالمطلوب في هذه المرحلة تنفيذ اتفاق «الطائف» الذي ينص على تسليم كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية سلاحها الى الدولة اللبنانية ومؤسساتها العسكرية والأمنية الشرعية التي تتولّى حصراً ومن دون أيّ شريك مسؤولية بسط سلطة الدولة كاملة على كل أراضيها ومن دون أيّ استثناء.
في حين أنّ المطروح من خلال بعض المقترحات التي يتم التداول بها على طاولة الحوار هو «اتفاق قاهرة» جديد يحلّ فيه «حزب الله» محل منظمة التحرير الفلسطينية في التحكّم بالسياسات العسكرية والأمنية للدولة اللبنانية بحجة الحافظ على الإستقرار.
وبالتالي، فإنّ المطروح اليوم عن حسن نيّة من بعض الفرقاء أو عن سابق تصور وتصميم من فرقاء آخرين ليس مشروع حلّ للمشاكل العالقة التي يعانيها لبنان واللبنانيون على قاعدة قيام الدولة ومؤسساتها، وإنّما التأسيس لحالة من الإحتقان الوطني من طريق إرغام فريق من اللبنانيين على القبول بفعل موازين القوى القائمة باحتفاظ «حزب الله» بسلاحه في مقابل مرحلة قصيرة من الإستقرار الهَش والظاهري الذي يُخفي حالة من القهر والرفض، والذي سرعان ما سيتبيّن أنها لم تكن سوى مرحلة التحضير لانفجار جديد بفِعل أيّ تبدّل في موازين القوى نتيجة للمتغيرات المتسارعة والمتلاحقة على المستويين الإقليمي والدولي.
لقد سبق للبنانيين أن دفعوا غالياً ثمن نظرية المساومة بين سيادة الدولة والإستقرار الأمني من خلال «اتفاق القاهرة»… فلماذا تكرار تجربة دفعنا ثمنها مئات الألوف من الضحايا والجرحى والمهجّرين والمهاجرين بدل التزام اتفاق «الطائف» الذي يعيد للدولة سيادتها وللبنانيين استقرارهم المبني على شراكة حقيقية ومتوازنة؟