ولا مرّة كان الكيد في السياسة وعلاقات الدول، سلاحاً يُعتدّ به، وبقدرته على الانتاج ومراكمة النقاط ضد الآخرين، بل هو حتى في الحالات الفردية، يدلّ على أوضاع سيئة يُراد لها أن تبرأ بخطوات أسوأ!
اشتغلت القيادة القطرية طويلاً على تمايزها. وعلى إظهار ذلك التمايز بكل الطرق المعلنة والمستترة. واعتمدت في جذر ذلك الأداء، على كيد يعوّض عن ضمور الدور والحجم والوزن، بحيث أن كلّ من يتابع الأفعال «الكبيرة» للإمارة الصغيرة لا يملكه إلا أن يلحظ، وخصوصاً منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، خيطاً واحداً يربط كل التفاصيل: مناكفة السعودية، وإشهار التحدي في وجهها، وادّعاء أبوّة كل ما يزعجها! ورعاية كل ظاهرة تتبرم منها المملكة أو تفترض فيها الغلط وسوء السويّة والنيّة!
وذلك في الإجمال والتفاصيل، أخذ الإمارة الصغيرة الى أماكن سياسية موحشة! والى الوقوع في مطبّ الشطط والمكابرة والازدواجية المكلفة والخطيرة والتي يراها كل مَنْ على هذه الفانية: من دعم تنظيمات الإسلام السياسي الى استقبال القاعدة العسكرية الأميركية. ومن فتح «مكتب استشاري» إسرائيلي في الدولة، الى التغنّي بعمق العلاقة المنسوجة مع «حماس»! ومن الانخراط في محاربة بشار الأسد الى الانخراط في التقارب مع داعميه وأدواته القتالية!
وهي ذاتها مدوّنة السلوك، التي سمحت للقيادة القطرية بتلمّس «الحكمة» في مقاربة الدور الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية الجوارية، وتناسي أحكام تلك المكرمة في مقاربة الوضع المصري من جهة، والوضع الخليجي العام من جهة ثانية! بحيث أن عاقلاً واحداً، لا يمكنه أن يستوعب (من خارج سياقات الكيد ذاته!) كيف يمكن قطر أن تستفز السعودية في لحظة تعرّض أمنها القومي لمخاطر جسيمة وفعلية. وتستفز جوارها الخليجي المستهدف بوضوح تام، فيما تطلب التقارب مع إيران. ويبلّغ أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الرئيس حسن روحاني ما مفاده «إن علاقاتنا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية عريقة وتاريخية ووثيقة ونريد تعزيز هذه العلاقات أكثر مما مضى»!
المشكلة في هذا التبليغ البليغ، هي أن كل الدول العربية، الخليجية وغيرها، تريد «علاقات وثيقة» مع إيران، ولكن أي علاقات تريدها هذه الإيران مع تلك الدول؟! وكيف يمكن تجاهل أو التعامي أو القفز فوق وقائع «العلاقات» الإيرانية الخارجية؟! إلا إذا كانت القيادة القطرية تعتقد أن البحرين هي التي تتدخل في الشأن الداخلي الإيراني! وان الإمارات العربية المتحدة هي التي تموّل ميليشيات مذهبية في قم ومشهد وأصفهان وطهران! وأن السعودية هي التي تعتدي على الاستقرار الإيراني منذ سنوات وسنوات! وهي التي تقول شيئاً وتفعل عكسه! وهي التي تعتمد برنامجاً عدائياً لم تترك قوماً من أقوام الإيرانيين إلا واستهدفتهم طلباً لتثويرهم ودلّهم على طريق النجاة المرصوص في كتاب «الولي الفقيه»!
المشكلة في الأداء القطري، إزاء إيران، أن أصحابه لا يتجاهلون الاجماع الخليجي والعربي والاسلامي والأكثري فقط، وإنما أيضاً معطيات إيرانية تراكم مواقف كبيرة مضادة للنهج الرسمي المتّبع في العلاقات الخارجية، وفي شأن قضايا الاقتصاد والتنمية والحريات داخلياً.. والتي هي ذاتها (للمفارقة) مَن أوصلت الشيخ روحاني وكل الرهط المماثل الى تسجيل فوز مرموق في الانتخابات الرئاسية والبلدية.
إنعدام المنطق في سياسة الدوحة يدفعها الى اتخاد القرار الخطأ في التوقيت الخطأ في المكان الخطأ: تذهب الى إيران في الوقت الذي يريد العرب والعالم، أن «تعود إيران الى«النظام»و«الشرعية» الدوليين! والى أن تعيد النظر في سياستها الخارجية بما يتلاءم ويتناسق ويتناسب مع الأطر الناظمة للعلاقات بين «الدول» والمؤسسات والقوانين المألوفة!
صعب بعد ذلك وقبله، رؤية ذرّة منطق واحدة في الأداء القطري السياسي والإعلامي إزاء مصر! لكن سهل جداً رؤية الكثير من ذلك الكيد في رأس جدول أعمال الدوحة!…وقليل من الكيد شرٌّ فتّاك، فكيف بكثيره؟!