إن صحّ توصيف الحال اللبنانية راهناً باعتبارها تشكل تحدياً لفكرة الدولة اللبنانية في ظل تداعي مستتبعاتها من قوانين واستحقاقات دستورية، إذ ذاك يمكن ببساطة القول إن المسألة لا تتعلق بديمومة العهود والمواثيق أو حتى بالمؤسسات الوطنية بقدر ما تتعلق أيضاً بضرب دولة الطائف التي عبرنا إليها بعد الحرب الأهلية. ولاسيما أنه إذا ذهبنا أعمق من ذلك فالأمر يتعلق بالحال الطائفية التي تشهد تجاذباً حول الخيارات داخل كل طائفة في ظل الضغوط التي تعيشها المنطقة وفي ظل «التمحور الذاتي» الذي يعتقد كثيرون أنه الرهان الصائب، عندها يصبح الفصل صعباً ما بين الأزمة الوطنية التي تعيشها البلاد والأحوال التي تتعلق بالطوائف ومخاضاتها وحال التشكل التي تعيشها وكأنها في البدايات.
النقاش الذي استجد حول الميثاقية لا يجب الاستخفاف به ولا هو يتعلّق بالضغط لانتخاب النائب ميشال عون لرئاسة الجمهورية، إنه يتكامل مع إفشال صيغة النظام السياسي لأجل الذهاب إلى ما يسمى بالمؤتمر التأسيسي وذلك تماشياً مع ما تذهب إليه الأمور في عموم المنطقة من تراجع لفكرة الدولة المركزية وتقدّم النموذج المُفكّك للمجتمعات.
وفي ظل توازنات متحركة وغير مستقرة للوقائع التي تجري على مستوى المنطقة، فإن مجرد التفكير بإعادة خلط الاعتبارات التي تتعلق بالتوازن الميثاقي بين اللبنانيين يُعَد مغامرة غير محسوبة. إذ في حال تم الذهاب بعيداً في إفراغ النظام السياسي وإسقاطه بهدف إعادة تصميم نظام جديد، فذلك لا يضمن شيئا للمسيحيين وهم الحلقة الأضعف على مستوى المنطقة.
إن طرح مسألة الميثاقية، وفقاً للنموذج الذي يتبناه التيار «الوطني الحر«، وكأنها تختزن الغبن بحق المسيحيين، تُعادل القول بأن المسلمين السنة هم «الغالبون» في هذه المعادلة، في حين أن أدوات حكمهم وسلطاتهم، بالمعنى الميثاقي، مُعطّلة إن كان في السلطة التنفيذية منذ أسقطت حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2011 أو على مستوى السلطة التشريعية منذ تعطلت مفاعيل الأكثرية النيابية في كل الاستحقاقات الجوهرية اللاحقة. طبعاً لا أحد يطرح الأمور من موقع التضاد هذا، أو من هذه الزاوية التي لا يفضي الإيغال بها إلى أي نتيجة حالياً، لكن الإضاءة تلك تفترض التوصل إلى استنتاج بأن فتح النقاش حول الميثاقية أو المؤتمر التأسيسي لن يؤول إلى ما يبتغيه أصحاب هذه النظرية، بل سيُدخلنا في نقاشات لن تنتهي إلا بانتهاء كل الصراعات في الشرق الأوسط، وهذا الأمر بالتأكيد لا يُرضي المسيحيين ولا مرجعياتهم الحريصة على ملء الشغور الرئاسي ولا مصالحهم الاستراتيجية في الحفاظ على لبنان الدولة. وبين النقاش السياسي الذي يرتكز على القواعد الدستورية في حال تعذر التوافق من جهة، والنقاش الميثاقي الذي يُعيدنا إلى مربعات غادرناها منذ اتفاق الطائف من جهة ثانية، فإن الأجدى لا شك يكون في عودة الأطراف المسيحية إلى طاولة الحوار للبحث عن مخارج للأزمة السياسية ومحاولة فك الإرتباط عن ما يجري في المنطقة.
أزعم أن مسيحيي لبنان، وهم غالباً مُصدّرون للأفكار التأسيسية وللصيغ التي ترتبط بالدولة كملجأ لهم وككيان يتشاركونه مع شركائهم المحليين منذ تأسّس لبنان على قياس طموحاتهم بالشراكة، أزعم أنهم اصحاب تصدير أفكار تلك الشراكة وأصولها النظرية، على ذلك كانت القومية العربية مدخلاً لاستقلال دول المنطقة والقاعدة الكفيلة بضمور العصبيات في عموم الشرق الأوسط، العصبيات التي لا تصب في صالح المسيحيين بأي حال. كما كانت صيغة التعايش بين المكونات مدخلاً لاستقلال لبنان التي عادت وطوّرتها وثيقة الإرشاد الرسولي (السينودس) عام 2010 بقاعدة العيش معاً، وأكدتها صيغة الطائف وجملة المصالحات التاريخية التي رعاها البطاركة في الجبل اللبناني. وعلى ذلك أيضاً تقع المسؤولية في محاولة إيجاد صيغ خلاقة لأزمة الوجود المسيحي في المنطقة وخاصة في سوريا والعراق، إذ يُعوّل على المسيحيين التماهي مع مستوجبات البقاء في الكيانات السياسية من ضمن أطر الشراكة إياها التي تحدث عنها السينودس.
والواقع أن ما يطرحه التيار «الوطني الحر« من قضايا تتعلق بالميثاقية اضحت من لوازم التعويض عن أزمة قيادة في الشارع المسيحي عقب تعدد الأجندات خارج إطار 14 آذار، فرفع كل التحديات إلى المستوى الوجودي يفضي إلى جهوزية مسيحية دائمة نحو إيلاء الشؤون السياسية مكانة ميثاقية، ويدعم توجهات فدرالية موجودة ومتجددة، حتى لو أتت في إطار الفكرة اللبنانية، مثال على ذلك طرح القانون الارثوذكسي الذي يفرز البنية الثقافية في البلاد إلى مساحات خاصة تغيب معها المساحة المشتركة للدولة والمؤسسات، ومثال إضافي يتعلق بالتعاطي مع مسألة النزوح السوري من زاوية «وجودية» تغفل عن الأسباب التي استدعت ذلك وعن المسؤولية الأخلاقية للبنان في التعاطي مع هذا الأمر بعقلانية وبمعزل عن حفلة المزايدات والتوجهات العنصرية. وذلك كله يراكم قضايا إشكالية تشكل بذاتها، وليس غيرها، تحدياً ميثاقياً.!
() عضو مجلس قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي