IMLebanon

في «سياسة» إيران

ليس افتراء على العقل ولا على الأدب السياسي والاجتماعي، ولا على المنطق وأهله وأصحابه وأحبابه، وضع «سياسة» إيران في موضع العمود الفقري للأزمات المتتالية والمتناسلة التي يعاني منها الجسم اللبناني حديثاً، والتي كانت أزمة النفايات آخر نتاجاتها وأكثرها زناخة!

والقياس نفسه ينسحب على العراق، وعلى الحراك الشعبي المفاجئ فيه، والذي هو، شاء من شاء وأبى من أبى وكابر من كابر وطغى من طغى وتجبّر من تجبّر، نتيجة مباشرة لـ»سياسة» إيران هناك، والتي لا ينكر أحد فوق هذه الأرض، أنها صاحبة اليد العليا في السلطة وتكويناتها، وفي فساد قادتها، وعلى رأسهم المالكي وحاشيته. وفي كون جزء لا يستهان به من ذلك الفساد، مخصص لسد النقص في تمويل حاجيات الامتداد الإيراني نفسه من اليمن إلى سوريا وصولاً إلى لبنان!

ومثال لبنان يتضمن الكثير من اللطف الإلهي! بحيث ان «سياسة» إيران فيه (على المستوى الداخلي البعيد عن التورط في سوريا) اكتفت بتعليقه على الشجرة، وتعطيل دولته ومؤسساته، وإفراغ موقع رئاسة الجمهورية فيه، ومنع مجلس الوزراء من الإنتاج ومجلس النواب من التشريع، ما عنى ويعني وسيعني أن كل أزمة تساوي محنة، حتى لو كانت قصوراً إدارياً غريباً، عن معالجة النفايات المنزلية بطريقة صحية وصحيحة!

العراق أقل حظاً، واليمن مثله، حيث ان «سياسة» إيران لا تساوي فيهما شيئاً أقل من حرب أهلية، أو بمعنى أدق وأكثر علمية، «فتنة مذهبية» طنّانة رنّانة.. لكن، إذا كان المثال العراقي يتضمن شيئاً من اللبننة لجهة تنوّع مقوماته البشرية والسياسية وعبور معطى الفساد فوق الانقسامات، ودخول عنصر «الإرهاب» عليه، وهو الذي «يلطّف» الكثير من حدة تلك الفتنة.. وإذا كان انقلاب الحوثي والمخلوع صالح في اليمن، وما تلا ذلك من حرب مستمرة بضراوة لكسر (الانقلاب) وكسر أصحابه قد عززا فرضية عدم «ملاءمة« الوضع اليمني الاقتصادي والمالي والتنموي لاحتضان آلية فساد متكاملة وناجزة، فإن المثال السوري يبقى سيد الأمثلة والخلاصة الأكثر تكثيفاً وتعريفاً بـ»السياسة» الإيرانية وتأثيراتها التدميرية القريبة والبعيدة المدى والمتميزة عن سواها بكونها ناجزة تامة ومشتملة على كل مقومات النكبة.

يحلو لبعض المستعجلين والبرقيين الذين لا يجدون الوقت الكافي للشرح والتعليل، أن يضعوا المثالين الليبي والمصري في دائرة المحاججة لجهة كونهما حارّين برغم ضمور «السياسة» الإيرانية فيهما.. وعلى الوتيرة ذاتها يمكن الرد بسرعة وعلى طريقة البرقيات المختصرة: مصر لا تزال بألف خير، وما يجري فيها ليس شيئاً يُعتدّ به مقارنة بغيرها وبتاريخية السنوات الأربع الماضية التي شهدت ثلاث «ثورات» تغييرية كبرى! في حين أن ليبيا لا تقدم ما يفاجئ أحداً في ضوء تركة معتوه مثل القذافي، عمل على مدى أربعة عقود على تحطيم كل شيء له علاقة بالنظم السياسية الطبيعية ومؤسساتها ودساتيرها وقواها الضاربة، وصحّر السياسة والثقافة والاجتماع والفن والإعلام والقضاء ولم ينسَ أن يصف ذلك كله بـ»التخضير»!!

سهل الفتك الانتقادي في لبنان.. الأمر جزء من الثقافة التأففية المؤاخية لعمر الكيان منذ الاستقلال. وسهل أكثر ادعاء الفرادة الفكرية وصولاً إلى تطاول بعض النخبويين على الادعاءات الكبيرة وتقديم أنفسهم باعتبارهم يملكون جواباً على كل سؤال، وحلاً لكل مشكلة.. لكن الواضح في المقابل، أن قصر النظر مؤاخٍ للذاكرة المثقوبة، بحيث ان أحداً، لا من هؤلاء النخبويين المفترضين ولا من غيرهم المخضرم، أي الذي شهد كل شيء منذ منتصف السبعينيات حتى اليوم، يحب أن يتذكر، أو يذكره أحد آخر، بأن لبنان لم يشهد منذ العام 1975 يوماً طبيعياً واحداً، وأنه مع الوصاية السورية أنتج ظواهر لم تندمل باندماله، لكنه مع «السياسة» الإيرانية المتحكمة به وغير القادرة على حكمه، وصل إلى حالة من الهريان بزّت كل ما عداها وصارت كافية لأن تجعل من الزبالة قضية، ومن هذه «القضية» «ثورة» مدّعاة!

لو يتواضع البعض في أحكامه واستنتاجاته وخلاصاته، ويتذكر تماماً، أن عدّته الفكرية ساهمت بضراوة في إيصال لبنان إلى التدمير بدءاً من العام 1975، وتساوت في ذلك مع السلاح الفلسطيني الداشر والمنفلت، كما مع الإغلاق الذي تحكم برؤوس السلطة (الدستورية الشارعية) يومها!

.. لو يتواضع ذلك البعض قليلاً ويؤجّل إلى حين، إطلاق الأحكام اليقينية والادعاءات الحاسمة في مقابل تغييب التفسير السياسي (الإيراني) القائم.. لبنان يستحق أداء أرقى من هذا البؤس المستشري والمتبادل، السلطوي والشارعي، والشعبوي والمؤدلج سواء بسواء!