Site icon IMLebanon

في «الشعبوية» حياة أيضاً: من لبنان حتى أميركا  

«الشعبوية» معطى أساسي في زماننا، والموقف منها لا يفترض ان يكون أحادي الوجهة. ذلك أن الشعبوية ليست ظاهرة أحادية لا تختصر بنموذج واحد يتكرر. الاكتفاء بتجميع عناصر التشابه بين الشعبوية وبين الفاشية لا يفيد كثيراً لفهم هذه الطفرة من الظواهر التي تنتشر في عالم اليوم، وقسمها المشترك هو البحث عن أفق آخر متميز عن الأنساق الديموقراطية التمثيلية، وباحث عن سحر انتزاع «التفويض» من الناس، أكثر مما هو باحث عن توكيل مؤطر مؤسساتياً منهم اليه والى سواه، في لعبة تداول سلطة وفصل بين السلطات.

اليوم ترامب. تدخل الظاهرة الشعبوية الانتخابات الاميركية من الباب الواسع مع المرشح اليميني الملياردير دونالد ترامب وكل الهرج والمرج الذي أثاره وشغل الكوكب منذ شهور. خسر أو ربح الانتخابات فهو الظاهرة المشهدية المدوية، منذ انتزع الموقع الجمهوري في السباق من خارج التقليد الحزبي المحافظ، تقليد رونالد ريغان وجورج بوش الأب، ووصولاً الى اللحظة التي قال فيها انه يترك لما بعد الانتخابات مسألة الاعتراف بنتائجها أو لا.

ويضاف اليه في الشعبوية الظاهرة برني ساندرز على يسار الحزب الديموقراطي. وليس نافلاً ان تقول الزعيمة اليمينية القصوية الفرنسية مارين لوبين في مقابلة معها نشرتها «الفورين افيرز» هذا الشهر ان ترامب وساندرز يقولان الشيء نفسه، وتشيد بكليهما.

لقد فازت هيلاري كلينتون، برزمة مواقف وتعليلات «رزينة» – او تبحث عن الرزانة كقيمة تفاضلية، على شعبوية ساندرز «الأنتي رأسمالية» في التمهيديات، رغم افتقادها الكاريزما، والشرط الاول للكاريزما ان تعرف كيف تحرك عناصر وأمارات وجهك، فيما هيلاري وجه بارد، وصوت بارد، وايقاع معدوم الحيلة.

وبقي عليها ان تقارع شعبوية يمينية تشتري الاثارة والتجريح، وأحياناً التهريج، وأحياناً الوعد والوعيد، مع دونالد ترامب، الثري الذي احترف تنظيم مسابقات ملكات الجمال في السنوات الخوالي (سترتد عليه دستة اتهامات له بالتحرش الجنسي وخلافه)، والذي يتعاطى مع انتخابات الرئاسة كمهرجان لهو وتسلية و«انترتيمنت» ضخم (والانتخابات الأميركية هي «انترتيمنت» الى حد كبير منذ عقود، لكن هذا البعد يحطم الرقم القياسي في هذا الاستحقاق).

جهدت هيلاري الوقورة، الذكية، هيلاري المقاتلة، لتحسين ادائها الكلامي والاعلامي، وحاول آل اوباما، وخصوصاً السيدة الاولى ميشيل، تعويضها ما لم يتأمن لها من كاريزما «ملعلعة» بوجه مرشح «نيروني» المخيلة، وبذيء اللسان، وسريع العبارة، ومدمن استفزازات: «الرجل الابيض» بوجه النساء، والسود، والمكسيكيين، والمسلمين، لكن رجل أبيض بجسم غير مثالي أبداً. جسم يؤكد «ماتشيته» (تبجّحه الذكوريّ) لكنه غير مكترث، بل مستخف، بالصور الغربية المثالية عن «الرجولية» (الفيريلية) المبنية، بشكل عام، على صناعة «التناسق»، العضويّ والمظهريّ والادائي والعلائقي. ترامب يشهر بدلاً من ذلك، ذكورية «اللاتناسق» المطلق، شكلاً ومضموناً. وفي المقابل، اذ احتفظت هيلاري، في كل محطات السباق، ضد ساندرز وضد ترامب، بـ«حبل السوية»، فانها في الحالتين معاً، ظهرت بمظهر «الخبز البايت».

أكبر مشكلة تواجهها الديموقراطيات التمثيلية هي السأم. تسلية الناس بالعنصرية والذكورية هي بعض من عدّة الشعبويين «العلاجية» لمشكلة السأم هذه. البعض يتسرّع ويحيل كل ظاهرة شعبوية على الفاشية، وهذا غير وجيه. هناك طبعاً عناصر مشتركة بين فاشية ما بين الحربين وبين شعبويي ما بعد الحرب الباردة. لكن هناك عنصر اختلاف جوهري: فالديموقراطية التمثيلية ليست ضعيفة رغم كل شيء اليوم، والشعبويون داخلها يعيدون منحها طاقة، والشعبويون خارجها، يعيدون منحها دوافع حيوية في السياسة الخارجية بدل البلادة. تختلف الشعبوية من اميركا الى روسيا الى البلدان العربية الى الهند، باختلاف درجة تحقق ومناعة «حكم التمثيل» في كل من هذه البلدان. يبقى ان «تجسيد الشعب» هو القاسم المشترك.

الموقف السلبي بشكل مطلق من الشعبوية هو موقف تبسيطي. فبعد كل شيء، من قال انه على القادة ان لا يسلوا ناسهم؟ بالعكس، هي وظيفة اساسية للقادة في عالم اليوم. وبعد كل شيء، من قال ان المؤسسات يمكن ان تكفي نفسها بنفسها وتستقل عن اي نوع آخر من الحضور الشعبي؟ في الشعبوية حياة. في الشعبوية مخاطر ولها عواقب وخيمة ايضاً. بين الحدين، يصوت الاميركيون لأحد خيارين: إما تراجع الفورة الشعبوية بعض الشيء، في حال وصول هيلاري، وإما شعبوية تدخل الكوكب رسمياً في حالة هرج ومرج لسنوات، في حال وصول ترامب.

في لبنان ايضاً، الشعبوية ليست شيئاً سلبياً بالمطلق. ينبغي فهم كيف ملاقاتها، ومتى، وأين. بعد سنتين ونصف السنة فراغ رئاسي، شيء من الشعبوية، يمكنه ان يؤدي دوراً ايجابياً في تسريع الاقلاع بالمرحلة الراهنة. كل ما في الامر النجاح بالدوزنة. فهذا عصر الشعبوية عالمياً، ومن ينجح حقاً هو من ينجح في الاستفادة من المجالات التي يعطيها عصر الشعبوية لإعادة بث الروح في المؤسسات، مع الحيلولة دون إغراقها، كما هو حادث في بلدان عربية وآسيوية وأوراسية عديدة.