لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحقّ في أن ينتابه شعور القلق من المستقبل بعد التوقيع الأميركي – الإيراني الاتفاق النووي، والذي لا بدّ من أن يتضمّن في ملحق سرّي تفاهماً على خريطة النفوذ والمصالح في الشرق الأوسط. ففيما كان نتنياهو يُلقي كلمتَه في الكونغرس للمرّة الثالثة، كان الجنرال الإيراني الأبرز قاسم سليماني يقود بنفسه معاركَ الجيش العراقي لاستعادة المناطق التي يسيطر عليها «داعش».
وجود سليماني في العراق جاء عَلنياً هذه المرّة، ووُزّعت صورُه على وسائل الإعلام، والرسالة واضحة هنا: إيران تستعيد نفوذها الميداني في المناطق ذات الغالبية السنّية، وطبعاً في مرحلة ما قبل توقيع الاتفاق النووي مع واشنطن.
لكن في خطاب نتنياهو إشارات مهمّة لا بدّ من التوقّف عندها:
1- إلتزام نتنياهو طلبَ وزير الخارجية الاميركي جون كيري عدمَ إفشاء أيّ من بنود الاتفاق بين واشنطن وطهران، وهذا يعطي تأكيداً إضافياً على أنّ الاتفاق أصبح شِبه مكتمل، وأنّ الإدارة الاميركية وضعَت الحكومة الإسرائيلية في بعض تفاصيله. وإذا كانَ ذلك قد حصلَ مع تل أبيب، فإنّ مِن باب أولى الاستنتاج بأنّ الحزب الجمهوري مطّلع على تفاصيل الاتفاق، ما يعني وجود تفاهم ولو بحدّه الأدنى بين الحزبين على المشروع المطروح.
2- إنّ خطاب نتنياهو الذي أثار زوبعة داخلية أميركية خلال الأسابيع الماضية، لا بدّ من أن يكون المسؤولون الكبار في الحزب الجمهوري قد وُضِعوا في أجواء خطوطه العريضة، وبالتالي فإنّ ما تضَمّنه من دعوة إلى وقف التوسّع الايراني في الشرق الأوسط والإشارة إلى أربع عواصم أضحَت تحت السيطرة الإيرانية، إنّما يشكّل احد أهمّ برامج الحزب الجمهوري حيال السياسة الخارجية في حال وصولِه إلى البيت الأبيض.
وفي هذا الإطار تضجّ القنوات الديبلوماسية بمواقف من هذا العيار ينقلها أركان الحزب الجمهوري إلى القيادة السعودية، حيث إنّ زيارة السيناتور جون ماكين الأخيرة إلى الرياض كانت حافلةً بمواقف مشابهة.
قد يجد البعض تعارضاً بين إطلاع الرئيس الأميركي باراك أوباما أركانَ الحزب الجمهوري على تفاصيل الاتفاق وسعي هؤلاء للحدّ من تمدّد النفوذ الايراني، إلّا أنّ القاسم المشترك بين الإدارة الأميركية والحزب الجمهوري هو تحقيق اتّفاق نوَوي، ولكن مع أقلّ مقدار ممكن من المكاسب من خلال تَركِ لعبة التناقضات الداخلية تأخذ مداها. لذلك مثلاً سيناقش مجلس الشيوخ الأميركي اقتراحَ قانون يُلزم الرئيس بإحالة أيّ اتّفاق دولي يتمّ إبرامُه حول الملف النوَوي الإيراني إلى الكونغرس.
وفي مقابل اشتراط إيران عدمَ توقيع الاتفاق إلّا بعد رفعِ كلّ العقوبات دفعةً واحدة، وهو ما يُهدّد تأجيلَ التوقيع مرّةً جديدة الى نهاية حزيران المقبل، ظهرَ في الساعات الماضية اقتراح قانون يَمنع أوباما من تعليق أيّ مِن العقوبات المفروضة على إيران لمدّة 60 يوماً من تاريخ إبرام الاتفاق، ما يوحي للإيرانيين بتقلّص هامش المناورة لدى البيت الأبيض.
3- في كلمة نتنياهو ما هو موجّه للانتخابات الإسرائيلية التي بات على مسافة أسبوعين منها. فعدم مهاجمتِه السياسة الأميركية إنّما يدخل في إطار الردّ على أبرز نقاط قوّة حملات خصومِه الذين يتّهمونه بتهديد مصالح إسرائيل من خلال توسيع فجوة الخلاف مع واشنطن.
وفي المقابل حرصَ أوباما أيضاً على عدم مهاجمة نتنياهو، حتى لا يستغلّ ذلك في الحملات لجهة إثارة الغرائز والعصبيات ودفعِها لتكون لمصلحته من خلال منحه بعض العطف.
في المحصّلة، ستنتظر إدارة أوباما سقوطَ نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية وحرمانه أكثريةً تسمح له بالعودة إلى رئاسة الحكومة على رأس ائتلاف من المتشدّدين، لكنّها في الوقت نفسه تبدو عاجزةً عن السير بالشرط الإيراني لجهة إزالة كلّ العقوبات دفعةً واحدة، أقلّه قبل نهاية هذا الشرط. وفي الكلام الأميركي الأخير للإيرانيين، هناك نوعان من العقوبات، واحدة رئاسية ويستطيع أوباما إزالتَها فوراً، وثانية في يد الكونغرس، وهذه تحتاج لمعالجة داخلية ولبعض الوقت. وتتحدّث الديبلوماسية الأميركية عن شيء بديل اسمُه «تعليق» العقوبات تمهيداً لإزالتها.
في المقابل، تُصِرّ طهران، التي تعيش أجواءَ الانتهاء من كلّ التفاصيل، أقلّه حتى الآن على إزالةٍ كاملة للعقوبات. لكنّ الأهمّ أنّ الجميع يقرّ بأن لا عودة إلى الوراء.
فالمصلحة السياسية والاقتصادية لكِلا الطرفين بحاجة ماسّة للتفاهم، وأبرز دليل على ذلك انتقاد واشنطن العَلني العملية الإسرائيلية في الجولان وعدم اعتراضها على «ردّ الرِجل» في شبعا، باعتبار أنّ ذلك سيَمنع حصول اضطرابات أمنية مستقبلاً، وكذلك عدم نجاح مسَرّبي تفاصيل عملية اغتيال عماد مغنية إلى صحيفة الـ«واشنطن بوست» في استدراج ردّ فعل من الجناح الإيراني المتشدّد والمتحالف مع «حزب الله». ما يعني حِرصَ هذا الفريق على عدم القيام بحركة تضرب الاتفاق.
وفي انتظار أن ينتهي «شَدّ» حبال اللحظات الأخيرة قبل التوقيع، والذي قد يؤجّل إلى نهاية حزيران، فإنّ ذلك سيَخلق مساحةً زمنية ملائمة لإنجاز ملفّات ميدانية دمَوية. وأولى هذه المحطات هي استكمال عملية العراق وإعادة تثبيت معادلة ميدانية كانت إيران قد خسرَتها منذ اجتياح «داعش».
وتشكّل اليمن ثاني هذه المحطات، لجهة السعي إلى تثبيت سلطة الحوثيين، بحيث تأتي التسوية السياسية لاحقاً ترجمةً للتوازنات الميدانية لا الديموغرافية. أمّا ثالث هذه المحطات فهي لبنان وسوريا، فعلى مسافة زمنية قريبة ستنفجر المعارك في القلمون والمناطق المحيطة بعد هدنةٍ فرضَتها ثلوج الشتاء. وتتحدّث المعلومات عن أنّ جميع الأطراف يحضّرون على قدمٍ وساق لهذه المواجهة، التي ستتركّز في الزبداني.
لذلك مثلاً حرصَت طاولة الحوار بين «المستقبل» و«حزب الله» على درس كلّ الخطوات التي تسحب كلّ أنواع التشنّجات الداخلية، وتأتي خطوة امتداد الخطة الأمنية لتشملَ بيروت والضاحية والجنوب في إطار تبريد كامل للساحة الداخلية قبل انفجار المعارك التي ستؤدّي إلى نتائج ميدانية استراتيجية.
خطة أمنية يقال إنّها ستستهدف عصابات المخدّرات والخارجين على القانون، ويَعتبرها البعض صوريّة لأنّها لن تؤدّي بالتأكيد إلى تعديلات سياسية جذرية.