ثلاثة أيام فقط فصلت بين اتهام موسكو التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بـ«مسح مدينة الرقّة عن وجه الأرض»، وبين استخدامها «الفيتو» في مجلس الأمن، للمرة التاسعة، ضدّ قرار يُمدّد لعام كامل، عمل لجنة تحقيق في شأن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا.
و«الفيتو» ليس مفاجئاً لأحد.. أو يُفترض أن يكون كذلك باعتبار أنّه جزء متمّم لسلوك القيادة الروسية في سوريا، ولسياستها المعلنة بحماية الرئيس السابق بشار الأسد ومنع سقوطه ثمَّ منع محاسبته على الجرائم الإبادية التي اقترفها في حق البيئة السورية الحاضنة للمعارضة، من دون تفريق أو تمييز وبطريقة أشدّ عنفاً ووحشيّة من تلك المتأتّية من استخدام «السلاح الكيماوي».
وبالطبع، لم تفوّت واشنطن الفرصة، وأعلنت على لسان المندوبة الدائمة في الأمم المتحدة نيكي هايلي أنّ موسكو «تنحاز إلى جانب الديكتاتوريين والإرهابيين الذين يستخدمون هذه الأسلحة (الكيماوية) وأثبتت مرّة أخرى أنّها ستفعل كل ما يلزم لضمان أن لا يواجه نظام الأسد البربري» عواقب أفعاله!
وفي هذه المنازلة، من الرقّة إلى الكيماوي، استحضار غريب للأخلاق في سياق سياسي، يمكن الزعم أنّ آخر همّ من هموم أصحابه هو البعد الإنساني في هذه النكبة الإعجازية: موسكو «تندب» الرقّة! وواشنطن تركّز على الكيماوي! وكأنّ القصف الشيشاني الذي اعتمده الطيران الروسي في كل مناطق المعارضة تحت ستار «الحرب على الإرهاب» كان «دقيقاً» وليزريّاً! ولم يعتمد نهج الأرض المحروقة.. من المستشفيات إلى دُور العبادة إلى المدارس إلى الأسواق الشعبية إلى الأفران إلى الأحياء السكنية! أو كأنّ موسكو في الأساس لم تعتبر أنّ كلّ معارض للأسد «هو إرهابي»! أو كأنّها لم تُجهر على ألسنة كبار قادتها، بأنّ «عاصفة السوخوي» هي أهم «اختبار» ممكن لأسلحتها! وأهمّ «تدريب» لقواتها «الجوية والفضائية»!
أو كأنّ واشنطن من جهتها، لا تزال تعتبر أن «طريقة» قتل السوريين هي «القضيّة» وليس القتل في ذاته! وكأنّ الاستهداف بالكيماوي يوصل إلى نتيجة مختلفة عن تلك المتأتّية من الاستهداف بالبراميل المتفجّرة والطيران الحربي والصواريخ والمدافع! أو كأنّ اختناق المئات في الغوطة الشرقية أكثريّتهم من الأطفال في ذلك الآب من العام 2013 أكثر وطأة وإيلاماً ووحشيّة من قتل مئات الألوف في طول سوريا وعرضها بـ«الأسلحة التقليدية»! وأشد انتهاكاً لشرعة حقوق الإنسان من تهجير الملايين من بيوتهم وأرزاقهم؟ وأكثر هولاً من الفظاعات الموثّقة في السجون الأسدية! ومن «اختفاء» عشرات الألوف من المعتقلين الذين يُرجّح تماماً أنّ الجزء الأكبر منهم دُفِن في مقابر جماعية!
لكن الاستدراك هنا حتمي ويفرض أحكامه، وفي ذلك أنّ الحالة الراهنة هي ترجيع صدى للسياسات التي اعتمدتها إدارة السيّئ الذكر باراك أوباما. وإن الإدارة الحالية تتعامل مع موروثات تلك الإدارة ومع مخلّفاتها المنحطّة! ومع تعاميها المنهجي عن الفتك الحيواني بمئات ألوف السوريين، وسكوتها عن استخدام سلاح الإفناء الشامل للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وعن التطهير العرقي، والعقاب الجماعي والسماح لسلطة ديكتاتورية فتّاكة بارتكاب الفظاعات في حق معارضيها..
واشنطن تُنَازِل موسكو مع مفعول رجعي.. فيما الثانية في مكانها، سياسيّاً وأخلاقيّاً! والحاضر عندها صنو الماضي وجذر المستقبل!