IMLebanon

في الخطوط الحمر..

 

لافت للنظر الكلام الذي ورد في بيان الخارجية الإيرانية ردّاً على العقوبات الأميركية الجديدة التي طاولت من جملة ما طاولته، رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني.. واعتبار ذلك تجاوزاً «لكل الخطوط الحمر»!

 

يعني ذلك، أن طهران لم تجد ما يتجاوز تلك الخطوط في كل المواقف التي صدرت عن الرئيس دونالد ترامب وكبار المسؤولين في إدارته منذ سنة إلى اليوم! والتي اعتبرت في جملتها، (ولا تزال تعتبر؟) أن «الجمهورية الإسلامية» هي «أُمْ الإرهاب في العالم». وأن سياساتها الخارجية ليست سوى زعزعة للاستقرار في المحيط العربي والإسلامي، وأن هذه وترجماتها وإفرازاتها من اليمن إلى سوريا إلى لبنان، هي في رأس جدول أعمال المواجهة التي «قرّرتها» إدارة البيت الأبيض!

 

ليس صعباً الافتراض، أن طهران راهنت على بقاء التوعّدات الأميركية في الإطار النظري السياسي والإعلامي والعقوباتي المحض برغم كل ما قيل ويُقال! ويبدو للوهلة الأولى أنها كسبت ذلك الرهان حتى الآن! واستأنفت سعيها «التثويري» في اليمن والعراق وسوريا ولبنان في ضوء ذلك وفي موازاة متابعة السلوك المألوف القائل باعتماد منطق «الدولة» حيث لا إمكانية لـ«الثورة»!

 

أي أن طهران حسبت بحصافة أن دونالد ترامب صاروخ ملجوم وغير مُذخّر طالما أنه أوضح من البداية، أن سياسته الإيرانية من دون أسنان! وأن استراتيجيته الخارجية في جملتها تتمّم استراتيجية أوباما عملياً وإن نقضتها نظرياً وإعلامياً! وأنه مستمر في الانكفاء عن الانخراط المباشر في نزاعات وحروب لا تمسّ «الكيان» الأميركي مباشرة! ولا تهدّد في العمق مبدأ «أميركا أولاً»! وأنه «شخصياً» غير معني بصرف أي دولار وإراقة دم جندي واحد من أجل «الآخرين»، حتى لو كان هؤلاء هم الحلفاء التاريخيون والطبيعيون في أوروبا!

 

وصحيح في المبدأ (والتجربة) أن العودة إلى اعتماد سياسة العقوبات الاقتصادية والمالية، مؤذٍ ومكلف بالنسبة إلى الإيرانيين، لكن الصحيح الموازي هو أن المعاقَبين هؤلاء يَعتبرون الأمر (أو كانوا؟!) أقل سوءاً بما لا يُقاس من البدائل الميدانية المباشرة! وان ذلك سابقاً، لم يمنعهم من التمدّد في اليمن تحت خيمة الانقلاب الفئوي الحوثي. ولا استئنافه في سوريا تحت ظلال الروس والطغمة الأسدية. ولا تثبيته في العراق نظامياً وميليشيوياً برغم موقف المرجعية في النجف.. وأن «قرارات» ترامب، حتى وإن وصلت لاحقاً إلى التنصّل من «الاتفاق النووي» لن تُعدِّل في هذا المسار العام.. مبدئياً!

 

لكن المستجد، هو أن المرجعية الحاكمة في طهران أصابت في حساباتها الخارجية وأخطأت في حساباتها الداخلية! وارتدّت الأولى على الثانية سلباً بطريقة مفاجئة. وبدلاً من التوازن بين «فتوحات» الخارج وتعبويتها المذهبية والقومية، وضمور التنمية والمال والاقتصاد وسعر صرف العملة وغياب بعض الحاجيات الأساسية بالداخل، حصل ويحصل العكس! والعقوبات الإضافية هذه المرّة، تزيد من حدّة الخلل في الميزان وتُعيد التأكيد للإيرانيين المتبرّمين والناقمين والغاضبين، أن قيادتهم فاشلة! وأن معاناتهم هي وليدة قرارات تلك القيادة أولاً وأساساً. وأنه لولا تنطّحها إلى لعب أدوار أكبر من الإمكانيات المتاحة، واعتمادها نهجاً مكابِراً ومنفوخاً وغير سوي ومُكلف، لكانوا وكانت إيران بألف خير!

 

اعتمدت القيادة الإيرانية على مدى العام الماضي، سياسة احتواء التصعيد الأميركي.. تجاهلته تارة وخفضت الرأس أمامه تارة أخرى. وظلّت على خطابها الذي طوّرته غداة «الاتفاق النووي» مغيّبة شعارات الموت والشياطين والاستكبار وما تناسل عن ذلك! بل بقيت «حريصة» على عدم الاصطدام ميدانياً بالأميركي أو الإسرائيلي في بعض مواقع التماس، أكان في سوريا أو في العراق أو في لبنان! وفعلت ذلك كله تبعاً لحساباتها «الحصيفة» و«الدقيقة» بأن مكاسبها و«إنجازاتها» الإقليمية والدولية ليست معرّضة لأخطار جدّية! وأن «الخطوط الحمر» في هذا السياق ليست حمراء تماماً! حتى لو شنّت إسرائيل أكثر من مئة غارة وغارة في الميدان السوري! وحتى لو منع الطيران الأميركي ميليشيات إيران المتعدّدة الجنسيات من الوصول إلى معبر التنف على الحدود مع العراق مثلاً!

 

.. لكن أن تُوضع عقوبات على شخص واحد هو رئيس السلطة القضائية في طهران، فذلك تجاوز لكل «الخطوط الحمر» لأنه مسٌ بالمرجعية الحاكِمة، في لحظة انكشاف فشلها والانتفاض عليها بكل رموزها وطقوسها! والغريب أن تبلّغ تلك المرجعية موقفها ذاك من خلال وزارة الخارجية وليس غيرها.. وكأنها حتى اللحظة، لا تزال تراهن على نَفَس أوبامي في سياسة ترامب! مع أن مشكلتها الفعلية والعميقة، هي، كما يتبيّن، مع الإيرانيين قبل أن تكون مع غيرهم بمن فيهم سكان البيت الأبيض!