كل شيء ممكن في لبنان. الشخص نفسه، يرجم ويقدس، في وقت واحد، وبسبب القضية ذاتها. وفي كلا الحالين، تمر القضية مرور الكرام، أو كما كان يروي رئيس الحكومة الراحل رشيد الصلح في توصيفه الأزمات اللبنانية، أنها في «اليوم الأول يا لطيف، والثاني شو عنيف، والثالث على الخفيف، وفي اليوم الرابع، كأن الحادث لم يحصل».
ويبدو أن تعاطينا مع قضية المتهم بالإرهاب، والفار من العدالة حتى كتابة هذه السطور، والفنان السابق وربما اللاحق فضل شاكر، هي ضمن السياق المذكور. لحسن حظ نجم أغاني الغرام، أن ذاكرة اللبنانيين أصغر من ذاكرة السمكة، ولحسن حظه أيضا أن معايير المؤسسات الإعلامية غير معيارية، ومن أجل «الخبطة» تخبط بعرض الحائط المهنية والأخلاق، وقبل كل شيء، القانون الذي هو ليس وجهة نظر، إلا في لبنان طبعاً. تخبطُه، بأن تحضر الأرضية، لتشكيل مطالعة دفاعية تضغط معنوياً وعاطفياً، للتأثير في المسار القضائي وحكمه.
الشق القضائي في مسألة فضل متروك للقضاء، علماً أن القضاء اللبناني لم يعد تلك السلطة المنزهة عن السياسة وأهوائها. بل على العكس، في أحيان كثيرة، بات القضاء، بمختلف فروعه، الدستوري أو المالي أو العسكري أو المدني، المظلة القانونية، وليس الشرعية، لارتكابات فراغ المؤسسات الرسمية والدولة وشللها.
ما علينا، أنه في زمن انهيار القيم والرافعات التي تحميها، يخرج من يقول إن الشاطر شاكر يريد العودة إلى حياته السابقة. لا نعرف على وجه اليقين إلى أي حياة من حيواته السابقات يريد العودة؟ إلى القتال ضد الجيش؟ إلى التحريض الطائفي والمذهبي؟ إلى تمويل القتلة وتشكيل مجموعات منهم؟ إلى إطلاق التهديدات بالقتل؟ أم إلى مسارح لبنان ومدرجات جرش وقرطاج؟
مقابلة صحافية مع مجرم متوار عن الأنظار ليست جريمة. ولا يوجد نص قانوني يجرمها. ولكن مهلاً. هذا المجرم يؤثر بصوته وطلته في مئات آلاف من المراهقين والبالغين. هو «ملك الإحساس» والتأثير. أي مسؤولية أخلاقية ووطنية وإنسانية تسمح لمؤسسة إعلامية بمنحه الهواء، ليقول إنه تائب، وإنه يريد العودة إلى الفن. تخيلوا أثر هذه التوبة في معجبيه ومريديه، بل على كل مجرم ومتهم بالتحريض، ومروج للكراهية والعداء ضد الآخر: سيقدسون توبته، ويتمثلون به. كل تحريض فتنة مؤدية إلى النار، واليوم صار الرجوع عن الفتنة من دون محاسبة، بسهولة شربة ماء.
لسنا في سياق محاكمة فضل شاكر. ولا إعادة نكش الأدلة العلنية على التهم الموجهة إليه، ما يعنينا القعر الذي وصل إليه في ما نشره عندما كان حراً طليقاً مستبيحاً «الفايس بوك» و «التويتر»، بالتحريض المذهبي والدعوات الصريحة إلى قتل عسكريين ورسميين ورجال دين، بالإضافة إلى ما قاله في إطلالاته المتلفزة والمسجلة، والتي حصدت مئات آلاف المشاهدات. إنها لطخة سوداء على جبين الفن والإنسانية أن يحظى فنان بموهبة تأسر القلوب، فيستخدمها لبث السموم. والأسوأ أن تستخدم «توبة مزعومة» لتهديد أمن «مخيم»، أو للتلاعب بعواطف ذوي العسكريين المختطفين، بإيهامهم أن التسوية على مصير فضل شاكر رهن حرية أبنائهم. هذه مهزلة ما بعدها مهزلة. لكن في لبنان، كل شيء ممكن.