تشكل الردود العربية على مقالة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الأخيرة في «نيويورك تايمز» عينة نموذجية على طرائق التفكير والنقاش والتحليل السائدة اليوم في أوساط السلطات في البلاد العربية والصحف القريبة منها.
في مقالته المنشورة بتاريخ 13 أيلول (سبتمبر)، حمّل ظريف «الوهابية» مسؤولية تفشي الإرهاب والعنف في العالم من أفغانستان إلى نيس وكوسوفو مروراً بالبلدان العربية، داعياً إلى استئصالها وتضافر الجهود الدولية لإنجاز هذه المهمة، ممتنعاً، في آخر لحظة، عن الدعوة إلى تشكيل تحالف دولي ضد الوهابية، ربما بسبب عدم وجود علاقات رسمية مع الولايات المتحدة التي ينبغي أن تكون راعي أي تحالف من النوع هذا ومحركه.
لا أهمية تذكر لمقالة الوزير الإيراني الذي قدمته وسائل الإعلام الغربية أثناء مفاوضات المشروع النووي الإيراني على أنه «أكاديمي» وذابت في مدح روحه المرحة، باستثناء أنها نُشرت في واحدة من أهم الصحف الأميركية والعالمية. موضوعها مكرر ومعروف ومصطلحاتها جرى اجترارها واستخدامها ابتداء من المرشد الإيراني علي خامنئي وصولاً إلى صغار صحافيي الممانعة الذين يحتلون الشاشات اللبنانية.
وتوهم المقالة القارئ أنها تقدم له كشفاً عظيماً بحديثها عن «حقيقة» الوهابية. هنا بالذات سقطت الردود العربية على ظريف ولجأت إلى الرد على المنطق المذهبي الطائفي بمثله (باستثناء مقالة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري أمس التي اتسمت بالطابع السياسي الواضح).
في الواقع، لا يحتاج العرب المسلمون الذين شعروا بالإهانة من كلام ظريف إلى تجريح بالمذهب الشيعي ولا بولاية الفقيه ولا بـ «حكم الملالي» في طهران ولا بممارسات الحرس الثوري الإيراني في العراق وسورية. بل يصح القول إن تناول الردود العربية للتشيع والخمينية صب الماء في طاحونة الدعاية الإيرانية وأكد تأكيداً غير مباشر دعاوى إيران عن تمثيلها للشيعة العرب وحمايتها الأقليات الأخرى في العالم العربي من خطر «الوهابيين».
ويمثل التذكير بسجل إيران في دعم الإرهاب في الثمانينات والتسعينات وانتهاكاتها الواسعة لحقوق الإنسان المستمرة حتى اليوم، وسعيها إلى الهيمنة المسلحة على المنطقة من خلال تغذية الصراعات الأهلية وتعميم المنطق الطائفي، جزءاً من عدة سجالية أعلى كعباً من اللجوء إلى لغة طائفية نقيضة، لكن هذه العدة أيضاً تآكلها الصدأ.
ربما كان أقرب إلى الصواب عدم الانجرار إلى منطق المهاترات الذي سعى ظريف إلى تكريسه كلغة تخاطب بين العرب وبين الإيرانيين، وتوضيح الطبيعة العالمية للخطر الإرهابي الذي تمثله «داعش» حالياً، وإلى اتسام الخطر هذا بسمات الأمراض التي تعاني منها المجتمعات المسلمة والعربية والمهاجرة وتعيش أزمات عميقة في الشرق وفي الغرب.
ولعل ليس من المبالغة القول إن الردود على مقالة ظريف، تذكر بالردود على الدعايات الإسرائيلية في الخمسينات والستينات التي ارتدت في مرحلة أولى لبوس المعاداة للسامية التي استوردها القوميون من أوروبا السابقة على الحرب العالمية الثانية، ثم أضيفت إليها منذ التسعينات مقولات عن «أبناء القردة والخنازير» وتفتيش مضن في التوراة والتلمود عن كل ما يفيد بكراهية اليهود للآخرين كمبرر للرد على الكراهية بمثلها. أمر مشابه تحمله الردود على ظريف وكأن يصعب على الكتاب العرب توسيع زاوية النظر والتفكير وبناء منطق حديث يستطيع أصحابه الحفاظ على حقوقهم من دون أن يخدموا خصومهم.