Site icon IMLebanon

في التدوير والتدبير

 

مهنة الروّاد تدوير الزوايا الحادّة. بل المكرّمين بخصال مميّزة، من ضمنها الهدوء والتروي في أزمات التوتر والصخب والانفعال، خصوصاً وتحديداً.

 

والزوايا السياسية والطائفية والمذهبية عندنا، وما يشتق منها مجتمعة ويتناسل، كثيرة، عدا كونها حادّة في الأصل وإن غطّت حدّتها أقمشة نفيسة في أوقات الهناء والإلفة، ولطّفت وضوحها الضروري المقصود منه تبيان التمايز وحفظ المقامات والحقوق والممارسات والطقوس، كما إشهار التنافر والعداء.

 

بل يمكن الاستطراد والاجتهاد والزعم بأنّ تدوير وتنعيم الزوايا في المسار اللبناني، هي مهنة حياة مستدامة. وفعل يومي وساعاتي لا ينقطع. وهذه تشبه الطباع الأولى الأصلية الطاغية على التطبّع المكتسب.. وتدلّ على سلاسة عيش تشبه المناخ الاعتدالي المتوسطي و”تنسخه” إذا أمكن في العادات والتداخل والتلاقح والعمران: من تخفيف حدّة الانحدارات الجغرافية بجدران دعم، الى العقد الدائري في مدخل الدار وأبوابه وشرفاته.. الى تدريع التعدّد الطوائفي والمذهبي بحديد الكيان الجامع وقماشة الدستور المجمع عليه.

 

ثمَّ يمكن الادّعاء والزعم، وبشيء من البهرجة المقصودة بأنّ اللبنانيين تمكّنوا على مدى عقود حديثة، وقرون سابقة حتى في ظل غياب الهوية الكيانية الجامعة، من تطويع الجغرافيا والديموغرافيا بما يجعل من المساحة الصعبة مجالاً رحباً للسلاسة الهينة.. وهذه كانت أطول عمراً وأكثر ترسّخاً من الحالات الصِدامية المعاكسة. بل ساعد “الحظ” في بناء هذه الخلاصة بحيث أنّ اللبنانيين تمكنّوا من ارتكاب عيش مشترك ما عندما كانوا “وحدهم” حتى في ظل السلطنة العثمانية وبعدها الاستعمار الفرنسي.. وانفرط عقدهم العيشي ذاك أو بالأحرى، فار تنّور تعدّديتهم وتنوّعهم عندما ارتفع منسوب الخارج على الداخل! من إبراهيم باشا الى رستم غزالة، ومن “دولة” ياسر عرفات الى “دولة إسرائيل”، ومن عبد الناصر الى الخميني.. إلخ!

 

حتى في التكرار المملّ لترنيمة “الغريب” شيء من غريزة “العيش معاً”! ومن خاصّية تدوير الزوايا تلك وترجمة للتبرّؤ من الانتساب الى الذوات والخصوصيات والانتماءات المستنفرة والعدائية والشرسة، والنتاجات الكئيبة الصادرة عنها.. وهذا نكران إيجابي لا يمكن إغفاله برغم ركاكته، مثلما لا يمكن إغفال أن فعل التبرّؤ في ذاته يطال السلب وليس الإيجاب.. وليس قليلاً بهذا المعنى المحدّد، أن يعود “اللبنانيون” بعد كل جولة انتحار الى تحميل المسؤوليّة للغير! والإصرار في المقابل على امتلاكهم قدراً من المناعة تؤهّلهم في الخلاصة، لدوام التلاقح الاجتماعي والثقافي والسياسي والكياني! بانتظار (ربّما) جولة انتحار أخرى مشفوعة بحضور “غريب” ما!

 

وأمر جيّد ضمن قياسات السيّئ والأكثر سوءاً (وليس الصحّ والغلط) أن يتمدّد الوعي المصلحي (وليس الغرائزي) باتجاهات غير حادّة وبعيداً عن تلك الزوايا المسنّنة والجارحة، وأن يظهر في كلّ انعطافة مأزومة ومنحوسة، أحد روّاد التدوير والتعمير والتدبير، القادر على تبريد الأعصاب الحارّة والخواطر المهتاجة والغرائز الجامحة، وأن يلعب بحكمة وجلال دوراً إسفنجيّاً أكيداً: يمتصّ وعود الانتحار ويرميها جانباً ثمّ يكمل السعي على الطريق الى عيش تسوَوي ما.. وقدري بالتمام والكمال.