كانت مسألة وقت فقط قبل أن يحصل الصدام بين أوهام بشار الأسد وحقائق الوضع السوري، برغم التحرك المستمر لتلك الحقائق وكثرة المفارقات فيها وغرابتها في معظم الأحيان.
وقمة أوهام الأسد وبطانته الموصولة بالرؤوس الحامية في نواحينا، هي استمرار ادعائه بأنه لا يزال «رئيساً» لسوريا. وبأنه لا يزال قادراً على تسويق وظائف سلطته التي لم يبق منها، في كل حال، إلاّ بعضاً من عدة الأمن والعسكر، وبأنه تمكن (أو سيتمكن تماماً!) من ترسيخ نظرية أثيرة تقول إن وجوده، أو بقاءه في مكانه، أفضل من سقوطه (الأخير) وسقوط سوريا بعده في قبضة الإرهاب الداعشي وغير الداعشي.
ولا ينكر عاقل أن الأداء الروسي البطّاش والعنيف والوحشي في الآونة الأخيرة (التي بدأت أواخر أيلول الماضي) ساعد الموهوم في دمشق على تغذية أوهامه. والذهاب بعيداً في الافتراض بتمكنه من ربط مصيره السلطوي، بـ»الدولة» السورية، أو بالكيان الوطني السوري في مجمله.. وصولاً إلى تصديقه خبرية لا تليق حتى بمراهق غرّ في السياسة، تفيد بأن مصالح دولة كبرى مثل روسيا صارت مربوطة ربطاً فولاذياً بشخصه هو تحديداً وببقايا سلطته المترنحة!
ولا ينكر عاقل أيضاً، بأن الأداء الروسي ذاك، كاد أن يُفلت الأمور من حدود السيطرة ويُخرجها عن المنطق، خصوصاً عندما حصل الاحتكاك مع الأتراك. وأخذت موسكو تلعب مثل الهواة في مواضع جدية للغاية وتتصل بالمصالح الاستراتيجية الكبرى لتركيا وبالأمن القومي التركي.. وصولاً إلى تقديم إشارات مقلقة على استعدادها لتعريض مصالحها الفعلية والواقعية مع مجمل المحيط العربي والإسلامي في المنطقة لمخاطر ملموسة جراء سياساتها وممارساتها ومواقفها إزاء النكبة السورية!
وذلك في جملته، أضاف على ما في الأسد من طباع أصلية حرّكت كل أدائه منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة. وزاد من وتيرة غربته عن الدنيا وتمحور تفكيره حول «الأنا» و»الأبد» وصولاً الى تلبّس أدوار أنصاف الآلهة الماسكين بقبضتهم وإرادتهم معادلة الحياة والموت لأي انسان، واعتبار ذلك «حقاً طبيعياً» من حقوقهم التي لا تُمسّ.
كان لا بد من دلق بعض المياه على رأسه ورؤوس من يُفكر على طريقته. وأن تأتي تلك المياه من النبع الروسي البارد والقارس مباشرة، وبطريقة مهينة وشديدة الوضوح وتشبه التقريظ العنيف الذي يعطيه زعيم مافيا لأحد مرؤوسيه لأنه راح بعيداً في إجرامه أو لأنه فَتَح على حسابه وشطّ بعيداً.
ما قاله الروس بالأمس ليس أقل من بهدلة صافية لتابعهم الغريب الأطوار في دمشق. وعودة الى تذكيره ببديهة تجاهلها أو حاول ذلك، وهي تفيد بأن مصالحهم القومية العليا هي التي جاءت بهم الى سوريا وليس مصيره ولا مصير سلطته وبطانته.. وعند أول إشارة الى تعارض بين المعطيين، فان الخيار واضح ولا يتعامى عنه سوى موهوم، من طراز الأسد تماماً!
قد يكون مبكراً الذهاب الى استنتاجات حاسمة، لكن ما قاله الروس بالأمس يدلّ على انهم أتوا الى سوريا وفق «خارطة طريق» لا تتضمن حسماً عسكرياً! ولا حروباً إقليمية أو دولية! وإنما السعي الى «حل سياسي» لا يعني شيئاً أكثر من تأكيد اندثار السلطة الأسدية كشرط لا بد منه لكسب الحرب على الارهاب.. والله أعلم!