«حليب السباع» شربه الممانعون في دفعة واحدة وتنظيم وتوزيع اوركسترالي موحد، وأطلقوا في الأجواء اللبنانية الملبدة بغيوم المنطقة وأنوائها، تلك الدعوة الملحّة إلى وجوب أن تعمد الحكومة اللبنانية، التي يرأسها إبن «الشهيد» رفيق الحريري، إلى التفاوض الرسمي المبرمج والممنهج والمتسلح بأختام وأعلام الشرعية اللبنانية، مع النظام السوري القائم رئيسا وحكومة ومخابرات.
الأوركسترا العازفة بنبرة حادة، برزت في مجلس الوزراء ولدى قيادة الممانعين وإعلامهم وأبواقهم، وخاصة خاصة من خلال سفير سوريا في لبنان الذي أدلى بدلوه العجيب، غير عابئ بوضعه كسفير لدولة لا تسمح له الأصول والأعراف الدبلوماسية بإملاء رؤاه تجاه هذا الوطن المتخم بالمظالم التي دفعت بالشعب السوري إلى النزوح الملاييني حيثما تيسر له الهرب بحياته إلى دنيا الله الواسعة، وفي طليعتها لبنان، الجار الأسهل ولوجا ولجوءا ونزوحا إلى أرضه.
ومع ذلك، الصلة ما بين لبنان وسوريا، خاصة ما تعلق منها بالجانب الأمني والمخابراتي، قائمة وناشطة ومستمرة مع النظام السوري في أكثر من حقل وميدان، وما يرشح عن الإهتمامات الأمنية في ما يتم بصددها من حملات وطلبات، من قبل معظم الجهات المؤيدة والملتصقة بالنظام السوري، تكاد أن تنحصر في الإستقصاء عن أوضاع المعارضة والمعارضين السوريين الذين أجبرتهم البراميل المشتعلة والغازات السامة وعمليات التهجير القسري والتغيير الديمغرافي، على النزوح إلى حيثما تيسر لهم من أماكن آمنة تضمهم إلى مخيماتها البائسة، وجلّ آمالهم تبقى متوجهة إلى اليوم الذي يمكنهم فيه العودة إلى ديارهم وبيوتهم وسبل عيشهم وما تيسر لهم من حد أدنى أمني يقيهم من الإعتقال والتنكيل.
نتساءل، والحملة تتكثف وتشتد: هل عرض النظام السوري القائم على هؤلاء حلاًّ ما لأوضاعهم وسلامتهم وعودة آمنة إلى أرضٍ هواؤها رصاص وقنابل، وبيوتها وبناها التحتية مختفية من الوجود ولغتها اليومية هدير الطائرات ودوي المدافع، دون أن تكون لديهم قناعة ما بأن الجهود المبذولة حاليا من قبل المجتمع الدولي، ستُبْقي أرواحهم في صدورهم.
هل على الحكومة اللبنانية القائمة أن تدفع بالنازحين إلى نزوح معاكس إلى سوريا؟
وبالتالي، هل عليها أن تستعمل العنف لإجبار النازحين الرافضين لترك خيامهم التي تطاولها الرياح العاتية والحرائق اللاهبة.
هل على الحكومة اللبنانية المطلوب منها التفاوض على عودة النازحين، أن تلتزم عن الحكومة السورية بضمان حياتهم ومصيرهم بين الأيادي التي دفعت بهم إلى النزوح والهرب والاحتماء بالجوار المتمتع حتى الآن بحد أدنى من الأمن والإستقرار.
ولماذا لا تكّف الجهات المطالبة بمفاوضات رسمية ما بين حكومتي البلدين عن ارتكاب ما تيسر من الذنوب التي اقترفت بحق النازحين السوريين، فتعيدهم إلى ديارهم بالطريقة التي تتفق عليها مع حليفها النظام وحكومته الساعية إلى تدعيم ما تبقى من ركائزها كدولة، فلا يجد المراقب إلاّ كيانات متعددة لا تمت لسوريا والسوريين بأية صلة، وفي طليعتها إيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة وميليشيات مسلحة من كل الأجناس والألوان والمطامح والمطامع والإستهدافات المشبوهة.
هل نسي المتناسون اليوم أن أزمة النزوح السوري قد نشأت بُعيد المؤامرة التي طاولت حكومة الرئيس سعد الحريري حيث تم «فرطها» باستقالة وزراء معينين منها وتسليم الحكم والسلطة إلى حكومة الرئيس ميقاتي التي نأت بنفسها عن هذه الوضعية الطارئة وتكدست في بدايات حكمها معضلات النزوح وتطورت أضراره وأخطاره على مدى أشهر لاحقة.
كل ذلك، دون أن نغفل بالطبع أن الإرهاب الإجرامي قد تسلل إلى مخيمات النازحين، وهو كامن فيما بينهم ويتلطّى بمآسيهم، ويتحين الفرص للتوغل في الأرض اللبنانية، وإلحاق ما تيسر له من الأضرار الإجرامية بين مواطنيها، ولكن اللبنانيين وفي طليعتهم المسلمون السنة الذين اكتووا قبل غيرهم، بإلحاق أعتى الأضرار المادية والمعنوية بهم، وهم قد عانوا في كل مكان ابتلي بإرهاب داعش، من جرائم القتل والسلب والتحكم بهم وبمصائرهم وباتخاذ مواطنيهم الأبرياء رهائن بشرية تصّد بأجسادهم أهوال المعارك والإقتحامات. من هنا، وجوب التفريق بين النازحين المتلطين بخِيَم البؤس والتشرد، وبين أولئك المجرمين الذين شوّهوا الدين الإسلامي الحنيف وبالغوا في محاولاتهم الدنيئة لإلحاق الأذى المعنوي به وبحقيقته السامية وصفاته السمحة وأبعاده الروحية والإنسانية الطاهرة.
ومع هذا التفريق، لا بد لنا من أن نشدّ على أيدي الدولة بكل مؤسساتها وفي طليعتها الجيش اللبناني وقوى الأمن على اختلاف فئاتها وأنواعها، ذلك أنها المرجع الأساسي الذي ما زال المواطنون اللبنانيون يعتبرونه أملهم ووسيلتهم الأهم التي تؤمن لهم الإنقاذ والخلاص من كل هذه الأحوال المزرية والحافلة بشتى أنواع المخاطر، وقد أوضح الرئيس الحريري في تصريحه عقب لقائه بقائد الجيش وبوزير الدفاع الموقف اللبناني المؤيد والمتبني والمتلاحم مع الجيش وقوانا الأمنية كافة، خاصة ما تعلّق منها بجهودها الفائقة لكبح الأخطار التكفيرية والإجرامية عن لبنان، دون أن يعني ذلك أن رجال الأمن، معصومون عن الوقوع في الأخطاء، أنه يجوز لهم تجاوز الحدود الإنسانية والقانونية في التعامل مع بيئة نازحة فرض المجرمون التغلغل في أرجائها، ودون أن يعني ذلك أن يكون لأية جهة لبنانية مسؤولة، أن تستعين بشركاء النظام السوري لنقل معاناتهم إلى الأرض اللبنانية بكل تناقضاتها وتشعبات أخطارها. إن أوضاع النازحين قد تخطت معالجاتها بوضعها حدّ الإمكانيات اللبنانية الداخلية التي حازت على الإجماع اللبناني المؤيد لإيجاد حل سريع لأوضاعهم بما يعيدها إلى نصابها الطبيعي. إن ما يحاول اللبنانيون تجنبه من خلال الضغوطات التي تريد توريط الدولة اللبنانية بالتفاوض المباشر مع «الدولة» السورية يتمثل في وضع السدود المانعة لعودة السيطرة السورية العسكرية والمخابراتية والسياسية إلى لبنان والتحكم بوجوده ومصيره، دون أن ننسى أن على رأس حكومتنا اليوم إبن الشهيد رفيق الحريري، وأن اللبنانيين ما زالوا ينتظرون نتائج المحاكمات الدولية، حتى لو اقتصرت نتائجها على إعلان ساطع للحقيقة المرّة، لهذا السبب ولأسباب غيره كثيرة تشمل غالبية الشعب اللبناني فانهم سيبقون على تحفظاتهم واعتراضاتهم إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا بهم، وبمصير المنطقة المترجرج على كفوف العفاريق.