انطلق الصراع على سوريا مع نشوء الدولة بعد سقوط السلطنة العثمانية. وجاء تضارب المصالح بين الدول الكبرى، فرنسا وبريطانيا تحديدا، وتركيا، وريثة السلطنة، لاقتسام المغانم بعد الحرب العالمية الاولى ولاعادة النظر في اتفاقية سايكس ـ بيكو. لاحقا، وفي السياق عينه، ضمت تركيا لواء الاسكندرون السوري في 1939 بدعم من الانتداب الفرنسي وتم تتريكه باسم هاتاي.
سوريا، منبت القومية العربية، وجدت في الامير فيصل، نجل قائد الثورة العربية ضد العثمانيين، افضل من يمكن لقيادة البلاد في تلك المرحلة. لكن بعد الصدام مع فرنسا، انتقل فيصل ومعاونوه من دمشق الى بغداد، حيث تُوّج ملكا على العراق بدعم بريطاني. بعد الاستقلال، دخلت سوريا في صراعات جديدة، منها ما ارتبط بالواقع الجديد الذي نشأ بعد حرب 1948 وقيام دولة اسرائيل، ومنها ما ارتبط بتحولات الواقع العربي في زمن المد الناصري في الخمسينيات. وفي تلك المرحلة كان الاشتباك السياسي على اشده بين سوريا القومية وركنها حزب البعث المتحالف مع عبد الناصر وسوريا الوطنية ـ التقليدية، الى ان حُسم مع اعلان الوحدة بين مصر وسوريا في 1958. لكن سرعان ما بدأت الشقوق تظهر داخل الجمهورية العربية المتحدة الى ان حصل الانفصال في 1961.
خلافات جديدة برزت داخل الصف القومي الواحد بين عبد الناصر والبعث، وبين جناحَي حزب البعث الحاكم في سوريا والعراق منذ 1963. جبهة اخرى اطلت برأسها في اطار سياسة المحاور بين الطرف العربي المتحالف مع المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والطرف المناهض له المدعوم من المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. هكذا تحولت الحرب الباردة العربية الى ساخنة في اليمن في 1962 بين طرفَي النزاع المحلِّيَّين المدعومَيْن من مصر والسعودية.
هزيمة 1967 اعادت اللحمة الى الصف العربي، لكن مفاعيل حرب 1973 زعزعتها، تحديدا بعد معاهدة السلام بين مصر واسرائيل. انحصرت جبهات النزاع الاقليمية في لبنان، الساحة المباحة للمتنازعين جميعهم، وباتت سوريا الطرف الاكثر تأثيرا في لبنان وفي مسار النزاعات الدائرة على ارضه، لا سيما بعد الاجتياح الاسرائيلي في 1982 وخروج المنظمات الفلسطينية والمحاولات الفاشلة لاستعادة مواقعها في لبنان حتى منتصف الثمانينيات. توسعت المواجهات مع دخول ايران الاسلامية المتحالفة مع دمشق دائرة النزاعات، وسرعان ما توطدت العلاقات بين الطرفَين اثناء الحرب العراقية ـ الايرانية. تَثَبَّتَ الدور السوري مع انضمام دمشق الى التحالف الدولي في حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي.
اعتداءات 11 ايلول قلبت الاوضاع رأسا على عقب واطلقت تحولات جذرية في السياسة الخارجية الاميركية، وجاءت الترجمة العملية في حرب افغانستان، تبعتها حرب العراق. ومن ابرز مفاعيل هذه التطورات تصدّع بنيان المعادلة القائمة على الساحة اللبنانية والتردّي السريع في العلاقات بين واشنطن ودمشق، فباتت الطريق سالكة لصدور قرار مجلس الامن 1559 الداعي الى انسحاب الجيش السوري من لبنان. تم الانسحاب في 2005 على وقع انتفاضة شعبية واسعة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
في العام 2011 وصل «الربيع العربي» منهكا الى سوريا، وفي آخر السلسلة، بعد زخم تونس ومصر وليبيا. راهن كثر على سقوط سريع للنظام الحاكم، لا سيما السعودية وقطر وتركيا التي احتضنت اكثر الجهاديين تطرفا من العالم أجمع. لكن سرعان ما استعاد النزاع ملامح الحرب الباردة مع الموقف الصيني وخصوصا الروسي الداعم للنظام في مجلس الامن ولتسوية سياسية للنزاع، اضافة طبعا الى الدعم الايراني وانضمام «حزب الله» الى المعركة. الصراع على سوريا هذه المرة اخذ طابعا دينيا مع اعلان التنظيمات السلفية التكفيرية بلاد الشام ارض جهاد. وبعدما اخذت الازمة الاوكرانية مداها على ساحة الازمات الاقليمية – الدولية، لم يبقَ سوى الازمة السورية، حيث ساحات القتال مفتوحة لنزاعات العالم العربي والاسلامي. وعلى رغم فداحتها، فانها لا تؤثر فعليا في مصالح الدول الكبرى ىسوى لجهة حفظ ماء الوجه في سياق الارتدادات المتأخرة لحرب باردة انتهت منذ نحو ربع قرن. اكتفت واشنطن بإخراج اسلحة الدمار الشامل من المعركة، وتراهن الآن على «اعتدال» جبهة النصرة وعلى قائدها الجولاني الذي أكد في حديث الى قناة «الجزيرة» على ارتباطه الوثيق بـ «القاعدة»، وهو يعتبر ان الاخوان المسلمين انحرفوا عن النهج الشرعي وان المعارضة الميدانية التي يقودها في سوريا لا تقارن بمعارضة الفنادق والإعلام. بايجاز، قتل «ناعم» على يد النصرة «المعتدلة» بالمقارنة مع تطرف داعش واسلوبه الخشن.
حروب سوريا في عامها الخامس متشابكة بين نظام متماسك تجمعه المصيبة ومعارضة منقسمة، جامعها اسقاط النظام، وفي ما عدا ذلك الحروب مشتعلة، لا افق لها ولا حدود: حرب اهلية سلفية بين الجولاني والبغدادي، واخرى بين السلفيين والاخوان، ونزاعات تحركها العصبيات المذهبية والاتنية والقومية والعشائرية والمناطقية. بكلام آخر، كل حروب الماضي والحاضر ما عدا حرب واحدة جمعت العرب في زمن مضى لتحرير الجولان وفلسطين.
لا حلول ممكنة لحروب سوريا في المدى القريب، ولا دول جديدة، بل ربما دويلات أمر واقع. الرابح خاسر والخاسر مصيره كالرابح. الصراع على سوريا متواصل في الجغرافيا والتاريخ والسلطة وبين «المؤمنين» و «الكفار». الازمة السورية اكثر تعقيدا من الازمات «الشقيقة» في المنطقة. سوريا الكبرى حلم مستحيل، والصغرى واقع غير متاح، وبين الاثنين مزيد من الابادة والفرز المذهبي والديني والمناطقي. اما المشترك فهم الناس العزّل، ضحايا الحرب ووقودها.