الحزمة الثانية للعقوبات التي بدأتها واشنطن يوم أمس، لم تخرج عمّا ورد في «الاستراتيجية الأميركية تجاه طهران» والتي أعلنها وزير الخارجية مايك بومبيو في الواحد والعشرين من شهر أيار المنصرم. الإستراتيجية المعلنة في حينه تضمّنت إثنيّ عشر شرطاً للتوصّل الى «اتّفاق جديد» مع إيران، مع مطالب أكثر صرامة حول الموضوع النووي، ووضع حدٍّ لبرنامج الصواريخ الباليستية والتدخل الإيراني في النزاعات الشرق الأوسطيّة. عبارات وزير الخارجية الأميركي الجارحة في مؤتمره الصحفي يوم أمس، أسقطت ما اعتدناه من ضبابية في التعبير الأميركي ومن تجهيل دائم للفاعل عندما يتعلّق الأمر بإيران. الأشخاص والكيانات كانت حاضرة بأسمائها بشكل واضح في مضبطة الإتهام الأميركية. القول إنّ قاسم سليماني مسؤول عن سفك دماء الأميركيين وأنّ إيران هي تهديد عابر للقارات، عبر حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق، تعابير لم نعهدها في القاموس الأميركي بالرغم من كلّ النعوت الدونيّة والشيطانية التي أسبغتها الثورة الإسلامية على واشنطن منذ انطلاقتها في العام 1979.
الإعلان المنتظر عن حزمة العقوبات الأميركية تزامن مع جملة من المؤشرات التي تكثّفت لا سيما في الأسبوعين الأخيرين، والتي ساعدت في تقديم مشهديّة متجانسة مع المزاج الأميركي. الإنتصارات الميدانية للجيش الوطني اليمني في الساحل الغربي ومحافظتيّ صعدة والحجة، والإشادة الأميركية بدور المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتّحدة واعتباره جزءاً من الحرب على الإرهاب، وثبات الموقف الأميركي لجهة استمرار تصدير السلاح، واعتبار المملكة شريكاً أساساً للولايات المتّحدة بالرغم من الدعوات لوقفه بعد حادثة مقتل الصحافي جمال الخاشقجي، وانتهاءً بمجاهرة وزير الخارجية الأميركي بالتمييز الواضح بين الدورين المختلفين للمملكة وإيران على صعيد الاستقرار في المنطقة، كلها مقدّمات واضحة لحشد حلفاء أميركا في المنطقة لمواجهة إيران.
الرد الإيراني على الترويج الأميركي المستمر للعقوبات لم يظهر سوى بالاختباء وراء تمسّك بعض الدول الأوروبية بالإتفاق النووي واعتباره أساساً صالحاً للتفاوض، ومحاولة القول أنّ الموقف الأوروبي سيشكّل مخرجاً للإلتفاف عليها وتفادي مفاعيلها. ربما يمكن قراءة تعطيل حزب الله لتشكيل الحكومة كردٍّ وحيد أو كمقامرة إيرانية عبر الساحة الوحيدة التي تستأثر بها دون منازع، للإيحاء بإمكانية إسقاط اتفاق الطائف عبر إسقاط موقع رئاسة الحكومة، وربما لإعلان انتهاء صلاحية التسويّة التي أتت بمرشح حزب الله للرئاسة، والإنتقال الى مسألة تشكيل السلطة والمؤسسات الدستوريّة برمّتها.
إصرار حزب الله على استحالة القبول بحكومة من دون تمثيل «السّنة المستقلين» لا يعني أنّ حزب الله يقدّم نفسه حزباً عابراً للطوائف في لبنان، بل يعني أنّه يريد القول لخصوم طهران الإقليميين والدوليين أنّ دائرة الجذب الإقليمي التي يمثّلها حزب الله أصبحت حالة لبنانية طوعيّة متماهيّة مع النسيج السياسي والطائفي اللبناني، كما يعني سقوط ما اصطلح على تسميته عوامل داخلية لتشكيل الحكومة لصالح عوامل خارجية لا مانع من المجاهرة بها.
تدرك إيران أنّ العقوبات الأميركية موجعة وشاملة ومقيّدة لمرتكزيّ الإقتصاد الإيراني، النفط والمصارف، وهي تدرك كذلك أنّ اقتصادها الريعي يعاني ما تعانيه إقتصادات سواها من الدول النفطيّة، وأنّ تصريحات الرئيس حسن روحاني بأن طهران ستبيع النفط وستخرق العقوبات لا تتجاوز حدود المدى السمعي لمن يريد أن يسمعها في طهران، ولا يمكنها مقاومة الإصرار الأميركي على خفض الصادرات النفطية الى الصفر. كما تدرك طهران أنّ الدول الأوروبية التي استثنتها العقوبات من شراء النفط لا تزعج الإدارة الأميركية، فالعائدات ستودع في «صندوق المقاصة» المراقب لجهة وجهة الصرف بما لا يتعارض مع العقوبات المفروضة.
ربما ما لا تريد أن تقبله طهران أنّ الظروف غير مؤاتية، في السنتين القادمتين على الأقل، لتغيير السياسات الأميركية وأنّ صندوق المقاصه إياه قد يتحوّل الى «صندوق النفط مقابل الغذاء».