لو لم يكن الخطب جللاً، واللبنانيون بالكاد يعرفون كيفية مداراة هذه الدنيا كي لا تصل نيران النكبة السورية إليهم، لأمكن الذهاب بعيداً وكثيراً في التفرج على الموجة الجديدة من التوتر العوني، الآتية في زبدتها من أداء قديم، عمره من عمر الجلوس في قصر بعبدا في أواخر تسعينيات القرن الماضي.. ثم الانطلاق منه فوراً ومباشرة الى الجلوس في المبنى الموقت للسفارة الفرنسية في الحازمية، قبل الانتقال الى الجلوس في فرنسا ذاتها.
والتدرّج في الجغرافيا هو انعكاس للتدرّج في الحساب السياسي.. الأمران متلازمان تلازم السبب والنتيجة، سوى أنهما، في حال النائب عون، كانا تعبيراً عن «شيء» ذاتي أكثر منه موضوعياً! بحيث إن ما يسميه هو، عدم استسلام أو إذعان مستخدماً أنشودة «لن يأخذوا توقيعي»، يفسره آخرون على أنه وليد قصور في قراءة الخرائط السياسية الإقليمية والدولية والمحلية، عدا أن وقائع تلك المرحلة، لا تدلّ على معطى رفض الإذعان، ولا على البطولة الكامنة في ذلك الرفض، خصوصاً إذا ما أُخذت كما هي، روايات المبعوثين من قبل الجنرال آنذاك، الى القيادة السورية وما فيها من وعود في شأن «معارضين« و»صناديق سيارات»، والتشبّه بـ»الجندي» في جيش الأسد!
الموجة الجديدة من التوتّر السياسي والشعارات التي تُستخدم، والمصطلحات الكبيرة التي تُرمى في كل اتجاه، تُذكّر بتلك المرحلة، وخصوصاً لجهة افتراض كثيرين، ان النائب عون يحاول مجدداً جرّ الجميع، حلفاء وأخصاماً، الى زاوية تصعيدية عالية السقف ولا أحد يتطلع إليها، إلا هو نفسه.
ومع أن «قراءاته» السابقة أخرجته من قصر بعبدا ولم تثبّته فيه، فهو راهناً يُعيد التدليل على ذلك القصور نفسه في الشأن الحكومي: حكومة الرئيس تمام سلام، معطى اقليمي ودولي، بقدر ما هي تعبير عن «مصلحة عامة».. محلياً. وإشارات وسياسات وتصريحات، حلفاء النائب عون، وأولهم «حزب الله»، تدل على ذلك، وإلا، بكل بساطة (وبراءة!) ما كانت هذه الحكومة لتبقى ولو لساعات معدودات! ومع هذا لا يتواضع الجنرال، لا في ادائه ولا في تصريحاته ولا في شعاراته، بل يذهب الى آخر المطاف من أول الطريق، ويخلط بين السياسات العابرة والهموم والتحديات المصيرية (والتاريخية!). ومَن يستمع الى مطوّلات الركّ على مصير المسيحيين التي يطلقها، يظن تلقائياً (وأيضاً ببراءة!) ان المسلمين في أحلى أيامهمّ! وأن الفتنة المندلعة في تلابيبهم على مساحة تمتد من اليمن الى سوريا، ليست سوى خلاف في الرأي حول «الطريقة المثلى لاضطهاد المسيحيين»؟!
كثيرون يفترضون، ان اللغة العونية هي أول أخصام الحالة العونية! واللغة هنا، اختصار للأداء السياسي والخطاب الإعلامي. وهي بهذا المعنى مدعاة للاستغراب. باعتبار انها تدلّ على تناقض في الشكل يمسّ المضمون: عسكرية في موضوع السياسة. ومُنَاوِرَة في لحظة الجدّ. وعشوائية في محل التركيز. وجذرية في موضع التسوية. وفي خلاصتها لا توصل إلى أي مكان.. لم تفعل ذلك سابقاً في قصر بعبدا، ولن تفعل ذلك راهناً في مبنى السرايا. وإذا لم يُصدِّق النائب عون أخصامه في ذلك، فليسأل حلفاءه، وأولهم «حزب الله»!