Site icon IMLebanon

المعركة السيادية… في خطر

المعركة السيادية لا تتجزّأ، فهي كلّ متكامل، وأيّ محاولة لتجزئتها تعني ضرب المسار السيادي برمته، وبالتالي محاولة فصل المعركة الرئاسية عن المعركة السيادية تشكّل انقلاباً على كلّ مسار ١٤ آذار.

الحرب المفتوحة التي شُنّت على تيار «المستقبل» بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري كان سببها الأوحد تموضع «المستقبل» في الخطّ السيادي، ووقف هذه الحرب لم يكن يتطلب أكثر من إعادة مهادنة «المستقبل» للخطّ الآخر، ولكنّ تيار الاعتدال في الوسط السنّي رفض المقايضة بين أمنه وبين التراجع عن مواقفه الوطنية، الأمر الذي وضعه في مواجهة مفتوحة مع القوى التي تريد إبقاء لبنان مساحة نفوذ متقدمة لمحور الممانعة.

وما تعرَّض له «المستقبل» بعد العام ٢٠٠٥ ما زالت تتعرّض له القوى المسيحية السيادية منذ العام ١٩٦٩ بفعل رفعها طبعاً للعنوان السيادي، وبالتالي التقاطع بين شرائح مسيحية-إسلامية واسعة في انتفاضة الاستقلال هو أفضل تعبير عن توحّد جزء كبير من الشارع اللبناني حول أهداف وطنية مشترَكة.

ووحدة الموقف على المستوى الوطني التي أنتجت إخراجَ الجيش السوري من لبنان لا قيمة لها إذا لم تُستكمل من خلال إنجاز المشروع السيادي، الأمر الذي تجسّد فعلياً في تحالف قوى ١٤ آذار الذي قام على أساس مشروع «العبور إلى الدولة» الذي يعني استعادة موقع الرئاسة إلى الخطّ السيادي، ومحاولة امتلاك الأكثرية النيابية بهدف تحصين المشروع السيادي مؤسساتياً.

فقوى ١٤ آذار تكسب في كلّ مرة تنجح في توسيع حضورها داخل الدولة، وتضعف في كلّ مرة يتراجع حضورُها داخل هذه الدولة، لأنها تستمدّ قوتها من شرعية المؤسسات، وليس من قوة الأمر الواقع، وبالتالي لا خيارَ أمامها سوى خوض أيّ مواجهة مؤسساتية.

فإخراج «حزب الله» لتيار «المستقبل» من رئاسة الحكومة شكّل نكسة كبرى لقوى 14 آذار التي خسرت موقعاً متقدّماً داخل الدولة، ولم تعتبر يومذاك أنّ تلك المعركة ترتبط بـ«المستقبل» حصراً، بل اعتبرتها معركة سيادية بامتياز تتصل بكلّ مكوّنات 14 آذار.

ومن هنا معركة رئاسة الجمهورية ترتدي الطابع نفسه لناحية أنها معركة سيادية بامتياز، ولا يُفترض تحت أيّ عنوان التهاون في هذه المعركة، لأنّ استعادة 8 آذار لموقع الرئاسة يعني عودة الوضع المسيحي رئاسياً إلى ما قبل انتفاضة الاستقلال.

وإذا كان متعذّراً تحويل هذا الموقع إلى سيادي بامتياز على غرار رئاسة الحكومة، فإنه يجب عدم السماح بعودته إلى فلك 8 آذار، إنما إبقاؤه ضمن مساحة وسطية بين 8 و14 آذار من خلال انتخاب شخصية توافقية تعكس ميزان القوى القائم محلياً وإقليمياً.

وأيّ مساهمة من الشريك المسلم في قوى 14 آذار بانتخاب مرشح من 8 آذار ستُعتبر تخلّياً عن التحالف الذي جمع الطرفين ضمن حركة 14 آذار، ما يعني انهيار هذا الجسم الذي لن يعود من مبرِّر لوجوده واستمراره، كما تخلّياً عن موقع رئاسة الجمهورية، ما يعني أنّ هذا الطرف قرّر تعليق المعركة السيادية وترك حليفه يتخبّط منفرداً في معركته المزدوجة: الرئاسية والسيادية.

فوصول شخصية من 8 آذار إلى موقع رئاسة الجمهورية يعني الآتي:

أولاً، سقوط قرار النأي بلبنان رسمياً عن الأزمات الخارجية، أو بالحدّ الأدنى العودة إلى الإزدواجية في الخطاب الديبلوماسي بين رئيسَي الجمهورية والحكومة. فأيّ شخصية 8 آذارية ستعتلي منبراً دولياً ستشيد بالنظام السوري ودور «حزب الله».

ثانياً، العودة إلى المنطق الصراعي بين رأسَي السلطة التنفيذية، لأنّ أيّ شخصية 8 آذارية ستنطلق من مبدأ الهيمنة لا التعاون، وأنّ القرار هو للرئاسة الأولى لا الثالثة، وبالتالي إحياء الصراع بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، واستطراداً بين المسيحيين والسنّة على خلفيات سلطوية من أجل تحوير تركيز المسيحيين من البُعد السيادي إلى البُعد السلطوي.

ثالثاً، إعادة ترسيم دور رئيس الحكومة بجعله يقتصر على الشؤون الداخلية الاقتصادية دون الأمنية والسيادية والخارجية، وذلك في تكرار لتجربة الشهيد رفيق الحريري.

رابعاً، سقوط حيادية رئيس الجمهورية الذي سيكون طرفاً بالدفاع عن فريق، ومتحيّزاً لمنطق السلاح لا الدستور.

خامساً، إعادة إحياء معادلة «جيش وشعب ومقاومة» وربما «شعب واحد في دولتين».

سادساً، التكامل بين دور «حزب الله» على الأرض ورئيس الجمهورية في أرفع مؤسسة دستورية، وإذا كان ليس مطلوباً من الرئيس مهاجمة الحزب، إلّا أنه ليس المطلوب منه في المقابل توفير التغطية الرسمية للحزب، إنما التمايز عنه على قاعدة أنّ سلاحه يشكل أمراً واقعاً إقليمياً يتجاوز قدرة اللبنانيين على حلّه.

سابعاً، استمدّت الوصاية السورية شرعية وجودها في لبنان من خلال المؤسسات الدستورية، وبالتالي انتخاب شخصية من 8 آذار اليوم ستمنح الشرعية الدولتية لسلاح «حزب الله».

ثامناً، القرار الرسمي اللبناني-المسيحي سيكون منحازاً لطرف من اللبنانيين، ما يحمِّل المسيحيين تبعاتِ تورّطهم في صراع إقليمي ضدّ الأكثرية السنّية، وضدّ الشرعيّتين العربية والدولية.

تاسعاً، إعادة الانقسام إلى البيئة المسيحية التي سترفض اختزال القرار المسيحي برئيس لا يعبّر عن ثوابت المسيحيين التاريخية.

عاشراً، القرار السنّي في الرئاسة الثالثة سيكون محاصراً بين رئاسة أولى مسيحية ورئاسة ثانية شيعية.

وفي موازاة كلّ ذلك، سيُحدث تخلّي المسلمين عن المعركة السيادية من خلال إفساح المجال أمام وصول شخصية من 8 آذار إلى الرئاسة الأولى إحباطاً لدى الشارع المسيحي، وبالتالي جرّ المسيحيين إلى خيارات مسيحية على قاعدة أنّ معارك المسلمين السيادية هي غبّ الطلب.

وأمّا لجهة رمي المسؤولية على المسيحيين بحجة أنّ الأقطاب الأربعة في بكركي هم أوّل من دعوا المسلمين إلى انتخاب شخصية من ضمنهم على قاعدة الأكثر تمثيلاً، فإنّ المطروح كان عدم تعطيل النصاب أولاً، وإبقاء جلسات الانتخاب مفتوحة ثانياً من أجل دفع الكتلة الوسطية إلى تحمّل مسؤوليّتها بترجيح كفة مرشح 8 على 14 آذار أو العكس، ولكن لم يكن مطروحاً على الإطلاق أن تؤيّد كتلة أساسية في 14 آذار مرشحاً من 8 آذار في انقلاب واضح على كلّ المسار الذي سلكته هذه القوى منذ قيامها.

ويبقى أخيراً أنّ انتخاب شخصية من 8 آذار يعني نهاية كلّ المرحلة التي بدأت مع استشهاد رفيق الحريري، وبداية مرحلة جديدة من التموضعات، وانتقال عنوان الصراع من سلاح «حزب الله» إلى صلاحيات رئيس الحكومة.