IMLebanon

في البدء كانت الكلمة… ثم جاءت «داعش»

أعلن معجم «اوكسفورد» الانكليزي اخيراً أن الكلمة الفائزة لهذا العام هي «vape» أو ما شرحه بأنه عملية استنشاق أبخرة السيجارة الالكترونية. ويعتبر اختيار كلمة تمثل العام كله تقليداً لغوياً راسخاً في المجاميع اللغوية الغربية، بحيث يذهب الباحثون الى ابعد من تكريس كلمة شاعت أو كثر استعمالها، إلى البحث عن مصطلح يحمل «روح العصر» أو فلسفته أو يجسد ابتكاراً طبع زمنه. وتبين أن الكلمة الفائزة هذا العام غير مستخدمة كثيراً، لكنها سمة السجائر الالكترونية وما تمثله من ثقافة كاملة كادت تقارب الهوس في البحث عن الصحة والشباب الدائم عبر الغذاء السليم والرياضة والاقلاع عن التدخين. وترافق التضييق على المدخنين في كل المرافق العامة والمطارات بنقاشات «فلسفية» حول الحيز العام والحيز الخاص، والخيار الفردي وخيارات الحكومات لمواطنيها، مع نظريات اقتصادية حول ارتفاع تكلفة العلاجات المرتبطة بأمراض التدخين وارهاقها موازنات الدول.

إنها إذاً، حلقة من سلسلة يتداخل فيها الاقتصادي بالصحي بالفلسفي بالقانوني، وما يكشفه ذلك من تطور المجتمعات وتحولها، حتى يبدو أن كلمة واحدة ليست سوى رأس جبل جليد. فعلى ما أوضح خبراء اللغة في تبرير اختيارهم ذاك، إن الكلمة المختارة تعود جزئياً الى ثقافة «الهيبيز» من مدخني الماريوانا و «مستنشقي» أبخرتها، وأنها ماتت بموتهم كجماعة. لكنها اليوم ترتبط بحدث استثنائي وغير مسبوق هو تشريع الحشيش في عدد من البلدان والولايات الاميركية… هي اميركا نفسها التي حرمت الكحول لأكثر من عقد في العشرينات والثلاثينات.

وعليه، فازت السنة الماضية مثلاً كلمة «سيلفي» التي فتحت بدورها سيلاً من الأبحاث لا تقتصر على تطبيقات الهواتف الذكية وآخر تقنياتها، وإنما ذهبت الى البحث في علم النفس والحاجة للاستعراض الدائم، والشعور بالوحدة الناتج من الفردية المفرطة، وتضخيم الشعور بـ «الأنا» وغير ذلك مما يربط ربطاً وثيقاً بين اللغة وتحولات مستخدميها ليس فقط لجهة التحدث بها، فتكون وسيلة كلام وتخاطب، وإنما أيضاً لجهة كونها وسيلة شعور وتفكير ومرآة للعلاقة الأولى بين الانتاج (الاقتصادي، السياسي، الفكري..الخ) والاستهلاك.

ولأننا نقف على الطرف الآخر من المعادلة، أي أننا منذ عقود بتنا مستهلكين نهمين للسلع من دون الأفكار، يمكننا أن نتأمل ملياً اليوم في كلمة سطع نجمها في السنة نفسها، واشتقت منها كلمات سواء للتوصيف الدقيق أو السخرية السوداء، وكان لنا الفضل في تصديرها الى العالم حتى اعتمدت بلفظها العربي في لغات أجنبية. إنها «داعش»، الكلمة الفائزة لدينا من دون منازع. وكما «vape»، هي لم تتصدر معاجمنا لأنها الأكثر استخداماً، بل لأنها حملت سياقات فكرية و «ايديولوجية» كاملة، وفتحت لنا قاموساً كنا اعتقدنا أن زمن «السلفي» الذي انخرطنا به أطاحه الى غير رجعة.

وكما درجت من بضع سنوات عبارة «عجرم الله نساءنا» نسبة الى المغنية نانسي عجرم وما تجسده من قيم جمال وإغراء، تسري اليوم اشتقاقات مشابهة من مفردة «داعش»، وجمعها «دواعش»، والنسبة اليها «داعشي»، ومنها ما يصب في السخرية كأن يقال «دعوشكم الله».

وفي سياقات أكثر جدية، تكفي مطالعة بسيطة لعناوين الصحف، لندرك كم تشبعنا من (تنظيم) «الدولة الاسلامية» ومفاهيمه وقيمه المفروضة على العراق والشام وما حولهما بقوة الساعد والسيف. وللمفارقة أنه مع قطع الرؤوس، ما عادت عبارة «قوة الساعد والسيف» هنا مجرد مجاز لغوي، كما كانت عليه قبل سنة، بل أصبحت توصيفاً دقيقاً لواقع الحال. وهكذا، انتعش قاموس «السبي» و «السبايا» و «الغنائم» و «الجزية» و «صك العملة» و «هدر الدم» و «اقامة الحد» و «الصلب» و «النكاح» و «الكفار»… الخ. لا ليكون بديلاً لغوياً فحسب، بل بديلاً سياسياً ايضاً عن حقبة كاملة مضت.

وليس ارتباط اللغة بالسياسة والسلطة النافذة جديداً بالطبع، فأول ما فعتله وتفعله الانظمة الدكتاتورية هو الغاء اللغة الام للمجموعات العرقية، ومنع التحدث بها أو اطلاق أسمائها على المواليد الجدد. ومن المحطات الكلامية بين الخصوم والحلفاء السياسيين، «تهمة» اعتماد «لغة خشبية» أو «لغة رمادية» مقابل «لغة مشتركة»، نيابة عن القول عقلية بائدة، أو موقف متقلب أو تقارب في وجهات النظر.

ولكن الجديد هذه المرة، أن المصطلحات التي بدأت تجتاح اللغة العربية، ليس أنها لا تواكب العصر فحسب، بل أنها تعود بسكان هذه المنطقة الشاسعة الى ما قبل الاسلام وصدره، أي الى شيء من الجاهلية. علماً أن اللغة العربية عاشت هذه المدة الزمنية لأنها لغة القرآن أولاً، فيما الدين والدولة متلازمان في مسار سياسي واحد. فعندما نشأت القوميات واستقلت «الدولة» عن «الكنيسة» في أوروبا مثلاً، ماتت اللاتينية كلغة ثقافة وتعليم، وبقيت حكراً على رجال الدين.

وإذ قربت الانظمة البعثية والقومية «العلمانية» لغة العصر لمواطنيها آنذاك، فبات لليمني الجنوبي «رفيق» في موسكو أو برلين، إلا أنها استعانت بتلك القشرة اللغوية لتسطيح شعوبها بخطابية تتمسك بالشكل وتفتقد المعنى. وعليه، كان يكفي ذكر كلمات «مفتاحية» من قبيل «القضية الفلسطينية»، أو «مناهضة الامبريالية»، أو «الاشتراكية مقابل اليبيرالية المتوحشة» وغيرها، للاكتفاء بتردادها ببغائياً من دون الخوض في مضامينها ونشر مفاهيمها والنظريات الاقتصادية والاجتماعية من خلفها.

واليوم، فيما «داعش» تتمدد في المنطقة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، ونجحت في «تطبيعنا» لغوياً، ينهمك «الحداثيون» منا في جعل البداهة حكمة. هكذا، يصبح البحث عن «الامن الغذائي» في لبنان مثلاً أفضل من فساد الأطعمة. وحرية الصحافة في مصر أجدى من غيابها، والانتخابات النزيهة في تونس هدفاً محموداً لذاته، وقتل المدنيين مرفوض… مثل التلوث البيئي، والفقر والجوع والتسرب المدرسي. أما الخطوة «ما بعد الحداثوية» التي جاءتنا من مجموعة «نسوية» سورية، فهي البحث عن تسمية للعضو التناسلي للمرأة. جهد لغوي حقيقي بذل لإعادة اختراع العجلة، فيما الحركة النسوية العالمية و«روح عصرها» في مكان آخر، وقد ترى في محاولة كهذه إهانة صريحة لنضالاتها. لكن مهما يكن من أمر، يبدو أن القادم من الايام، سيحمل الينا من وراء البحار مزيداً من السجائر الالكترونية، والصور الذاتية التي تضخّم «الأنا» فينا، فيما نحن غارقون في البحث عن الكامخ بين الشاطر والمشطور.