علي نون
على فرادتها وتميّزها في التاريخ الوطني الحديث، السابق والمعاصر واللاحق على الحرب الأهلية، فإن منطقة البقاع الشمالي تدلّ أكثر من غيرها على حقيقة «جغرافية» وسلوكية عامة عنوانها الوحيد تهتّك الدولة وكيانها وفكرتها وسطوتها وأحاديتها برغم كل الظواهر المعاكِسة المتمثّلة بوجود وحضور أشياء هذه الدولة ومؤسساتها الدستورية في حياة اللبنانيين وفي كل مجال.
تفلّت السلاح كان قائماً قبل الحرب ولا يزال. والظواهر الاجتماعية المتّصلة به وباستخداماته كانت قائمة قبل الحرب ولا تزال. و«الفرادة» التي ميّزت البقاع الشمالي تأتّت من طغيان تلك الظواهر على غيرها. بحيث أن الاحتكام إلى السلاح لفضّ نزاعات عائلية أو شخصية، أو للاحتكام إلى شريعة الثأر بدلاً من شريعة القانون لأخذ حق أو معاقبة مجرم أو مرتكب.. ذلك الاحتكام كان رديفاً موازياً ومعاصراً لحقيقة أن عاصمة تلك البقاع، مدينة بعلبك، كانت مقصداً ومداراً سياحياً وفنياً تخطّيا الكيان الوطني بأشواط وتكفّلا دائماً بترميم الصورة كلما علقت عليها أدران الممارسات والارتكابات والمخالفات الكثيرة..
ومع ذلك، لا يتفاجأ لبنانيون وغير لبنانيين كثر، بخبر غير سوي يأتي من تلك النواحي. بل الحقيقة المُرَّة، هي أن المفاجئ في هذه الآونة، هو الخبر الآخر العائد إلى الماضي الفني والسياحي، والذي في كل حال لم يعد بالغزارة والكثافة اللتين كانا عليهما قبل العام 1975.
ولأن مدوّنة الحرمان المزمن هو المخزون الذي يغرف منه أهل الارتكاب والتطاول على القانون والمشاع العام أرضاً وبشراً وقِيَماً وأخلاقاً، فإن الكلام الآخر الحقيقي والدقيق ينزوي إلى الوراء، ويترك لسردية «المقاومة» و«خزّانها» مهمّة تعبئة الفراغ باللغو المناسب! وذلك يفضي حُكماً وحتماً إلى تغييب العلّة في جذورها الأولى والراهنة. وهذه فاضحة واضحة في بعلبك – الهرمل، لكنها (تكراراً) شاملة لمجمل الجغرافيا وكل مَن عليها.. وفحواها ومبناها وأساسها ولبّها أن ازدواجية السلاح التي يمثّلها «حزب الله» جعلت وتجعل من كل مسألة أخرى، أمراً فرعياً أياً تكن وطأته وأثقاله! وهذه عنت وتعني وستعني، في كل الأحوال، أن الدولة مكسورة! وسلطتها نسبية! وأجهزتها مثلها! وقوانينها مطّاطة وحمّالة أوجه تفسير واجتهاد! وقضاؤها بدوره مُعطَّل ومُعلَّق على حبال «الاجتهاد المقاوم» وليس على مدوّنات النصّ الدستوري الواحد الذي يقول كل شيء، إلاّ المتّصل بالكيفية المستحيلة الخاصة بمقاربة ظواهر منافسة للدولة الواحدة! والمؤسسات الشرعية المعبّرة عنها والدّالة إليها والعاملة تحت خيمتها وإرادتها وقوانينها!
وفي الكثير من اللغط الراهن الخاص بتحميل مؤسسات أمنية وعسكرية المسؤولية (كل المسؤولية!!) عن الفلتان السلاحي الحاصل، الكثير من التحريف والتخريف خصوصاً إذا كان مصدره «خبير» أمني متمرّس وإن ادّعى وصلاً بالسياسة في هذه الأيام.. هذا وغيره وأولهم نواب «حزب الله» في المنطقة يعرفون يقيناً وحُكماً وتماماً بتاتاً، أن المعالجات الفرعية لا تنتج حلولاً جذرية، وأن المشي على حفافي الموضوع لا يوصل إلى جذره.. أي طالما أن احتكار حمل السلاح من قِبَل المؤسسات الشرعية الواضحة والمعروفة والمعلنة، أمر مُلغى بفعل الإطناب المقاوم، فإن التكسير وقلّة الاعتبار والاحترام هما الخلاصة المعبّرة عن «صورة» الدولة! و«فكرتها»! وهذا حُكماً وحتماً سيفضي إلى تفلّت لا سقف له. يبدأ من سرقة السيارات وزراعة الممنوعات والخطف مقابل الفدية المالية، ويصل لاحقاً، إلى فتح جبهة فعلية بين عائلات تملك، من ضمن ممتلكاتها الكثيرة، ميليشيات تامّة وبكامل عتادها الحربي!
مَن يدلّ على النتائج يتناسى الأسباب. ومَن يحمّل بعض الأجهزة والأسلاك كامل المسؤولية يتناسى عامداً متعمّداً أصل الأمر وفرعه. ومَن يُطالب بـ«حضور» الدولة يتناسى قاصداً فعل الاستحالة في هذا الحضور طالما أن «الدويلة» حاضرة ناضرة.. تارة تحت سقف «المقاومة» وتارة تحت سقف «الثلاثية» المدّعاة وتارة تحت سقف الحلف الممانع الواصل إلى طهران والمربوط بروابط وأواصر لا تقرّ ولا تحترم الدساتير والقوانين والشرعيات والحدود سواء بسواء!
كان السلاح داشراً ومتفلّتاً في السابق وازداد أمره اليوم، لكن الفارق بين الماضي والحاضر هو ذاته الفارق بين الدولة والدويلة، والقانون وغيابه، و«المرجعية» الدستورية والشرعية الوطنية وتلك «الفقهية» والسياسية العابرة فوق الحدود.. و«حزب الله» ونوابه و«جنرالاته» يعرفون ويحرِّفون! وعلى عادتهم المألوفة والمستدامة يريدون تحميل غيرهم مسؤولية ارتكاباتهم وارتباطاتهم وجنى أعمالهم!