الإرهاب لا يولّد إلا إرهاباً، وإن بعد 38 عاماً، تاريخ المجزرة التي نكبت القاع فجر الثامن والعشرين من حزيران من العام 1978، ليتجدد المشهد الحزين والصادم في التاريخ نفسه بفارق عقود ثلاثة وساعات قليلة، وكأنّ على أهالي البلدة الحدودية أن يدفعوا ثمن الجيرة باهظاً، وإن فدت يقظتهم الأخيرة أول من أمس أرواحاً أخرى في أماكن أخرى قد تكون أكثر ازدحاماً وأكثر وجعاً من الذي يكبتونه هم الذين لا زالوا يؤجلون دفن الشهداء وعيادة الجرحى تلافياً لمزيد من خسائر الأرواح.
هنا القاع، لكن لا من يطمئن. صراخ النسوة حين فجّر الانتحاري الأوّل الأرواح من حوله، وفجّر الانتحاري الثاني المسعفين من حوله.. وكرت السبحة الى السابع والثامن يشبه كثيراً صراخ النسوة حين أعدم الجيش السوري بالرصاص عشرات الشباب من أبناء المنطقة. وفي وجه الشبه بين الفاعلين من الأمس الى اليوم، برغم اختلاف الرسائل، استباحة الحدود وزرع الفوضى والترهيب لكن لا في المجزرة الأولى ولا في المجزرة الأخيرة نجحت الرسائل في إخلاء البلدة التي يؤكّد أهلها: «باقون على صمودنا وتصدينا للارهاب وتشبثنا بالارض». وهم في المقابل يطلبون: «اعزلونا عن الحريق السوري..»، فهل من يسمع ويتأهب ويستعجل تلبية النداء؟
وهنا القاع، لكن لا يعلم الأهالي من أي وجهة يباغتهم الارهاب: أمن البراري يطلع انتحاري أم من منزل بينهم أم من زاوية كانت في السابق للتلاقي والسهر؟ الطرقات في حداد، الرجال مصوبة عيونهم في كل اتجاه، يرصدون كل متحرك: الدراجات، الشباب، حتى القطط والحيوانات السارحة من الجرود وإليها.. النسوة في حذر، وكن استرجعن عاداتهن القديمة بالبحث عن أكثر زوايا المنازل أماناً وحيطة وحذراً، وإلى إجراءاتهنّ حسابات الطعام والشراب في بلدة باتت محاصرة بالأمن والارهابيين… وحدهم الأولاد يسترجعون الصباح والمساء الداميين بمخيلة خصبة وجبهات استحدثوها داخل غرف البيوت للوقت الآتي من دون شمس ومن دون جري في البراري الفسيحة.
وهنا القاع حيث السيادة اللبنانية على المحك، وحيث الاختبار الأصعب في إمكان ذود اللبناني عن حقه في الأرض أو تناثر تلك الأرض في هباء زوبعة الارهاب الضاربة في كل مكان. الزوبعة القابلة للتدحرج مثل كتلة لهب تشتعل أينما تدوّرها الرياح.
ويسأل ابن القاع الجريح: ما الفارق بين إرهاب ضربنا في السابق، وبين إرهاب تمدد في الارض ليلاقي الظلم بأشد منه والارهاب بأشنع منه؟.. وفيما الانتحاريون سارحون ليحصدوا الضحايا ويقطفوا الارواح، ثمة لبنانيون سارحون مثلهم في براري المصالح الضيقة والقرارات الفردية التي لا تستدعي الا الحروب والمنطق التقسيمي، لهؤلاء ليس وحدهم أبناء القاع في خطر.. البلد بأكمله في القبضة اللعينة.