ماذا يعني أن يختار المرء نصرة ضحايا تفجير الكاتدرائية البطرسيّة في القاهرة، من باب أن المستهدف هو الإسلام، مصر، الشعب، الوحدة.. من دون تسمية المسيحيين، أو بتسميةٍ خجولة لهم، وكأن في ذلك تفاديا لفتنة تقسيمية؟ بالطبع مصر متضررة، وبالطبع الشعب متضرر، لكن ذلك يأتي في «التحليل» لا في التوصيف. التوصيف واضح: تفجيرٌ استهدف كنيسة، بنسائها تحديداً، وهو ليس الأول من نوعه، وهو لم يسقط من بعيد على المجتمع العريض كما قواه الحاكمة.
لكن الآتي من بعيد هو الصوت الذي تختار الجماعة الأكثريّة التعامل معه. الاستهداف الآتي من خارج النسيج الاجتماعيّ، المسقط عليه، بما يضمن براءتها التامة واستمرارها بما هي عليه. فتستنكر الجماعة بسهولةٍ «داعش»، وتتمنى لو «الأزهر» يكفّره. ولكن، لماذا الأزهر لم يكفّره (!) بعد، طالما هو تنظيم «إنما يؤذي المسلمين أولاً»؟ تتفادى الجماعة، وطليعتها أحياناً، الصوت الآتي من داخل نسيج المجتمع، كما تتفادى كلمات «فئوية» مثل: الربّ يسوع، جسد المسيح، إبن الله… ولعلها تبسمل وتحمدل في سرّها أو تشهر العلمانيّة في موقفٍ ثقافويّ، لمّا تسمعه. يرتبك الموقف الرافض للتفجير من الصوت المسيحيّ البحتّ، المختلف، الرافع لخصوصيته، فتسقط عليه لغة الجماعة في الاستنكار.
الجماعة، أكانت تُعرَّف بالوطن أو بالدين، ليست مسؤولة عن فعل الفرد، لكن الفرد لا يأتي من عدم. المسلمون ليسوا مسؤولين تماماً عن أفعال الإرهاب باسم دينهم، لكن هذا لا يعني أن دينهم هو «المستهدف الأول» بإرهاب التكفيريين. باعتبار ذلك، تعيد الجماعة تسكيت الضحية لتثبّت هواجسها (الوحدة الوطنية والبراءة من تهمةٍ مسّت الإسلام) كأولوية على إسم الضحية حتى. المسلمون وضعوا براءة الإسلام ووحدة الوطن كأولويةٍ في تفجير الكاتدرائية، وهو لا يأتي من عدم القاهرة وإنما في تسلسل أحداثٍ تستهدف المسيحيين، وضمن أجواءٍ عامّة تحتفي هستيرياً بالإسلام والمسلمين. فـ «أولياء الأمر» يحرصون على ذلك وتضييق مساحات الاختلاف: من النظام والأزهر إلى أساتذة الجامعات وشيوخ المنابر، مروراً ببرامج التلفزيون. أيّ مختلفٍ في مصر يسعى لتحييد اختلافه عن الأكثرية المهيمنة كي لا «يخدش الحياء» في أبسط الأحوال، وكي يتفادى الأذى في أشرسها. منع الاختلاف وغلبة «الذكر المسلم الملتزم بالأنظمة» لم يستجدا على مصر، ولا ولدا في الدقائق الخمس التي سبقت تفجير الكنيسة.
منذ سنوات وعقود، يخرج مواطنون ومواطنات بالنقد الحادّ للظواهر التي تثبّت سطوة الأكثرية على كلّ اختلافٍ، خارجها وداخلها. حتى أنهم صوّروا الصفوف المرعبة بطائفيتها وتحليلها لقتل المختلف، وتحديداً المسيحيّ، في جامعة الأزهر وسواها. هذا التفجير، أكان «داعش» قد نفّذه بجسد شاب مصريّ أو غيره، لا يسقط على مصر من بعيد. إن تسكيت الضحية في انفجارٍ لا ينقل فحسب رغبةً مرتبكة بالتضامن أو تشارك المصاب، وإنما هو يأتي من عدم رغبةٍ (واعية أو لاواعية) بسماع صوت الضحية. ففي صوتها إختلافٌ مقلق، يتطلب من أصحاب الامتيازات البديهية أن يتدخلوا كونهم «يعرفون الأفضل للجميع». وهذا فعلٌ قمعيّ، لبّه طول اقامةٍ في الامتيازات حدّ تصديقها، وظاهره الواعي يقول بالخير للجميع.
لذلك، أفضل سبيل لفهم اللبّ عندما يسودنا الظاهر الخيّر هو الاستماع للضحية، فتح أبواب الكلام لها، التصدّي لكلّ من يريد تسكيتها أو تنميق قولها، والإنصات. فالحياة كقبطيّةٍ في مصر الراهنة لن ترويها بدقة إلا قبطيّات من مواقع مختلفة، اجتماعية واقتصادية، في مصر المتراكمة. المسألة ليست تقسيماً للصوت «الوطني الجامع»، وإنما في الاعتراف بحقيقة أنه متعدّد وعميق. فالوحدة الإقصائية المتوترة من صوت الآخر، أيّ آخرٍ كان، هي حمّالة ظلمٍ كبير وخطر راهن ومؤجّل.