حين يتخلى رجال القانون عن الموضوعية، يصبح من حق سائر أهل العلم أن يستدركوا عليهم. ونومئ هنا إلى ذلك النزاع الدستوري الثائر هذه الأيام على صلاحيات الرئاستين الأولى والثالثة، وحصة الرئاسة الأولى في الحكومة، والتهديد بإلغاء التكليف، وهو أمر لم يحدث مثله في لبنان من قبل، في ما نعلم، وهو ليس تلهياً كما ادعى بعضهم، بل نزاع خطير بين شعار «أنا الدولة» وشعار «دولة القانون والمؤسسات».
والسبب في هذا النزاع هو أن الذي تولى الرئاسة رجل عسكري معارض لدستور الطائف، داع هو وحزبه إلى أن تعود إلى الرئيس صلاحياته التي نقلها الدستور إلى مجلس الوزراء، موحياً أنه هو المرجع لا الدستور؛ أي إلى إحياء النظام السابق لكن بلباس عسكري، مع ما يُجنّه ذلك من مخاطر. وتستند هذه المطالبة إلى أعراف مزعومة، وأخرى يراد فرضها، وميثاقيةٍ تلبس كل الأثواب، وتأويلات سفسطائية.
1- في الصلاحيات
1-1 فأما في الصلاحيات فيذكّر القصر وأنصاره، على ما هو معروف، بالمادة 53 من الدستور في فقرتها الرابعة، التي تقول إن رئيس الجمهورية: «يُصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة» وهي تعني عندهم أنه يشارك رئيس مجلس الوزراء في التأليف، ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فيزعم أن لرئيس الجمهورية الكلمة الأولى في التأليف باعتبار أنه ذُكر أولاً في هذه الفقرة. وواضح أنه تأويل تعسفي، لأن فعل أصدر لا يعني بأي حال ألّف أو شكّل، لا في اللغة القانونية ولا في غيرها من اللغات. وتكفي المادة 51 من والفقرة الخامسة من المادة 53 من الدستور برهاناً على ذلك، وهما تدلان على أن إصدار القوانين والمراسيم ليس سلطة، بل إجراء تنفيذي ملزم للرئيس، إذا رفض القيام به يكون قد حنث بقسمه.
2-1 ويستند القصر وأنصاره أيضاً إلى الفقرة الثانية من المادة 64 التي تنص في شأن الحكومة على أن رئيس مجلس الوزراء «يوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها». ويعدّون ذلك دليلاً إضافياً على حق الرئيس في المشاركة في التأليف. وما قيل في الإصدار يقال شبهه في التوقيع، فالموقّع على نص، ولو تبليغاً قضائياً أو وصفة طبية، هو أحد اثنين: إما منشئ له، أو مجرد متلق له يُطلب منه الاطلاع عليه. والحالة الأولى تنطبق على توقيع رئيس مجلس الوزراء على قرارات الحكومة، والحالة الثانية تنطبق على توقيع رئيس الجمهورية على تلك القرارات نفسها، مع أنه لم يصوت عليها، فهو غير شريك فيها، مبدئياً، وغير مسؤول عنها؛ وتنطبق أيضاً على المراسيم والقوانين المقرة في مجلس النواب. ولهذا وقّع رئيس الجمهورية قانون موازنة 2018 بغير أي شروط أو تقدير معايير، واكتفى بأن وعد بأن يطلب إلى البرلمان إعادة النظر في المادة 49 من تلك الموازنة الخاصة بتملك الأجانب، ولم يقل إنه لن يوقع ذلك القانون إلا إذا ألغيت هذه المادة. فالمسؤول الذي ينشئ النص ويوقع عليه يحاسب على نتائجه، ورئيس الجمهورية لا يحاسب على نتائج تأليف الحكومة وأعمالها، وهو لذلك لا ينشئ نص تأليفها، بل يوقع عليه إجرائياً.
3-1 واستندوا إلى نص محرف يقول إن رئيس الجمهورية هو حامي الدستور وحافظ المصلحة الوطنية العليا، وأنه يحق له بمقتضى ذلك فرض الحلول ووضع المعايير لتأليف الحكومة، وصولاً إلى حمل رئيسها على الاعتذار. وليس ذلك في الدستور ولا في العرف ولا في أي نص قانوني، في ما نعلم. ففي الدستور أن الرئيس يسهر ويحلف على احترام الدستور والقوانين، أي يخضع لها، وهذا لا يعني فرض الحلول ووضع المعايير، وحمل رئيس الحكومة على الاعتذار.
4-1 ومما زعمه بعضهم أن وزارة الدفاع هي حصة رئيس الجمهورية لأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة. وليس في الدستور ولا العرف مثل هذا الربط، ولا سيما أن الزاعمين يقفزون عن عبارة «التي تخضع (أي القوات المسلحة) لسلطة مجلس الوزراء».
5-1 ذلك لا ينفي قيمة توقيع رئيس الجمهورية، أو يجعله إذعاناً، وفق تعبير بعض أنصار القصر؛ فالرئيس يستطيع أن يرد أي مرسوم يشوبه عيب دستوري واضح وصريح، لا عيب تأويلي؛ وفي حالة تأليف الحكومة يستطيع الرئيس رد مرسوم تأليفها إذا تبين له أن بعض أعضائها غير لبناني او غير مؤهل للنيابة أو متوفى.
6-1 إن ادعاء حق مشاركة رئيس الجمهورية في التأليف والاعتراض على صورة الحكومة عند الضرورة، وما سمّاه بعضهم حق إعطاء الثقة لها، إنما هو مصادرة لحق مجلس النواب المخول وحده منح الثقة أو حجبها عن الحكومة. وماذا لو حجب المجلس الثقة عنها بسبب ما فرضه رئيس الجمهورية عليها؟
7-1 واستطراداً، لنفترض أن الانتخابات النيابية أسفرت عن أكثرية معارضة لرئيس الجمهورية، وسمّت في الاستشارات الملزمة شخصية من لونها، وقررت أن تؤلف حكومة مناوئة لاتجاهات الرئيس، فهل يمتنع الرئيس عن توقيع المرسوم الرامي إلى تأليفها بحجة عدم ثقته بأعضائها أو لإخلالها بالتوازن الوطني؟
8-1 وهنا نتوقف عند مصطلح التشاركية الذي زعموا أنه مبدأ دستوري. والحقيقة أنه لا أثر في الدستور للتشاركية ولا للمشاركة، والنص الوحيد الذي يتضمن معنى المشاركة فيه هو نص سلبي يؤكد أن رئيس الجمهورية لا يحق له المشاركة في التصويت في مجلس الوزراء.
9-1 تبقى الميثاقية التي يتذرعون بها دائماً، والتي ألبسوها معاني غير محدودة حتى أدخلوها في أتفه الأمور، والتي قدمها وزير الخارجية يوماً على الدستور، وهي في الواقع تتلخص في ترك حماية الغرب وعدم الدخول في وحدة أو اتحاد شرقي، أي في الوحدة العربية، ولا علاقة لها بتأليف الحكومة ولا بانتخاب رئيس الجمهورية.
2- في حصة رئيس الجمهورية الوزارية
1-2 زعم أنصار القصر أن العرف جرى منذ الطائف بأن يكون لرئيس الجمهورية حصة في الحكومة. والحقيقة أن ذلك كان نتيجة لاتفاق الدوحة سنة 2008 لا اتفاق الطائف، هذا إذ صح ما نشر عن الموضوع، أي حدث بعد صدور الدستور الجديد بسبع عشرة سنة، وكان في الحقيقة مراعاة لحالة خاصة هي حالة الرئيس ميشال سليمان. ولم يقض ذلك الاتفاق بأي حال بأن تكون حصة الرئيس منفصلة عن حصة حزبه، ولو كان للرئيس سليمان حزب وكتلة نيابية فمن شبه المؤكد أنه لم يكن لينال حصة خاصة. وهو اتفاق غير ملزم، لأنه لم يقر في الدستور، بل هو مجاف له. ولم يطبق إلا في عهد الرئيس سليمان وفي أول عهد العماد عون. وقد أكد العماد عون قبل انتخابه رئيسا أن حصة الرئيس بدعة، وكان على حق في ذلك، لكنه تراجع عن مقولته حين انتُخب وصارت هذه البدعة مفيدة له، وذلك أمر يُكره في رئيس الجمهورية لأنه «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن»، والحصة الوزارية تجعله طرفاً وتنزع عنه صفة التجرد.
2-2 إن الحصة الوزارية تهدد بتعطيل الحركة الديمقراطية في الدولة. ولنضرب المثل السابق نفسه، وهو احتمال أن تسفر الانتخابات النيابية عن أكثرية مناوئة لسياسة الرئيس، وأن يمتنع الرئيس من توقيع مرسوم تأليفها ما لم يكن له حصة فيها.
3-2 ومن أطرف التسويغات أن هذه الحصة تعويض مما ألغي من صلاحيات الرئيس في دستور الطائف. أي هي محاولة للعودة إلى نظام ما قبل الطائف لكن بنظام مكافئ له؛ فصلاحيات الفرد التي نقلها الدستور إلى مؤسسة مجلس الوزراء يراد أن يعوض منها تسمية الفرد لعدد من الوزراء يكونون تابعين له، وبهذا يظل نظام السلطة الفردية قائماً، بصورة او بأخرى.
3- في إلغاء التكليف
1-3 يحاول بعضهم تهديد الرئيس المكلف بما يسمونه سحب التكليف، وقد بدا القصر كالموافق على ذلك، ثم نفي سعيه إليه حين رأى الخلاف الدستوري فيه. وحجتهم أن من يكلف يستطيع أن يلغي التكليف؛ والحقيقة أن التكليف جاء من النواب والتسمية من الرئيس، ويقتضي إلغاء التسمية إعادة المشاورات الملزمة، وهذا ليس في الدستور. ولذلك دعا بعضٌ آخر إلى استكتاب النواب عريضة تطلب إلغاء التكليف، باعتبار أن النواب هم من كلفوا، واستشهد أحد سفسطائييهم بحادثة جرت في عهد الانتداب وهي اعتذار رئيس وزراء مكلف بسبب عريضة وقعها النواب ضده. والحقيقة أن عهد الانتداب لا يقاس عليه، والعريضة كانت وسيلة ضغط لا إجراء دستورياً يقضي بأن يعتذر عن التكليف كل من ترفع ضده عريضة نيابية. فليس في الدستور اللبناني ولا الأعراف ما يشير إلى مثل ذلك.
2-3 من يمارس حقه في الانتخاب أو التكليف إنما يمنح حقاً دستورياً للمنتخَب أو المكلَّف لا يستطيع النكول عنه، وإلا امتنع الاستقرار السياسي والتشريعي. والسماح بإلغاء تسمية الرئيس المكلف يستتبع السماح بإلغاء نيابة النواب من قبل المنتخِبين، وإلغاء ولاية رئيس الجمهورية من قبل النواب، وهكذا. وهو أمر غير معقول. وماذا لو طالب المدافعون عن صلاحيات رئيس مجلس الوزراء رئيسَ الجمهورية بالاستقالة لمخالفته الدستور؟
3-3 وآخر تهديداتهم للرئيس المكلف هي الإيماء إلى استعمال رئيس الجمهورية حقه في مراسلة مجلس النواب، وذلك لإقرار معايير تأليف الحكومة وحث الرئيس المكلف على الإسراع فيه. وهذه بدعة لا سابقة لها، فمجلس النواب يحاسب رئيس الوزراء بعد نيل الحكومة الثقة لا قبلها؛ والرئيس المكلف يبقى مجرداً من الصلاحيات قبل ذلك، أي يكون غير محل محاسبة. وليس المجلس محكمة أو مجلساً تأديبياً ترفع إليه الشكاوي من بعض أطراف السلطة التنفيذية على بعض، ولا يجري في قاعته إطلاق الاتهامات والدفوع بينهم، بل من حق النواب اتهام أي طرف من أطراف السلطة التنفيذية العاملة، باستثناء رئيس الجمهورية الخالي من التبعة. والراجح أن الرئيس أو مستشاريه يرمون إلى نيل اعتراف المجلس بحق المشاركة في تأليف الحكومة، فيكون الأمر بمثابة تعديل دستوري ضمني. وهذا بعيد من الواقع، لأنه إذا حصل، وهيهات، يمكن أن يجيء إما على صورة توصية، والتوصية غير ملزمة، أو على صورة تعديل للدستور، وهو أمر لا يتحقق إلا بوجود حكومة غير مستقيلة. وشبه المؤكد أن المجلس رئيساً وأعضاء لن يسايروا الرئيس في هذه لمغامرة.
4-3 لكن الإشكالية الراهنة يجب أن تطرح مستقبلاً قضية المهل الدستورية لئلا يتحول العمل الدستوري إلى سجالات شخصية وربما طائفية. والمطلوب تعيين مهلة لتأليف الحكومة، على أن يقابل ذلك تعيين مهلة لتوقيع رئيس الجمهورية لمرسوم التأليف، وأن يعتبر توقيع مرسوم التأليف كتوقيع سائر المراسيم إجراء واجباً لا يحتمل النقاش والمساومة.
والنتيجة، بصرف النظر عن الموقف من الرئيسين، هي أن التفاسير الدستورية والعرفية التي يتذرع بها أنصار القصر لفرض رؤيتهم الحكومية لا تستقيم، وهي مجرد تأويلات وإيهامات سياسية غير موضوعية، وهدفها شيء واحد هو العودة إلى نظام ما قبل الطائف، وإحياء الامتيازات الطائفية، وربما استحياء لويس الرابع عشر.