لا يَلزمنا الكثير حتى نلاحظ أنّ «المشروع الاسرائيلي» ينجح، بمقدار الفشل الذي يُصيب دولنا ومجتمعاتنا. ينجح الى حدود قلَبت المفاهيم والأولويّات، ووضعت مساراً تفتيتياً ومشروعاً تقسيمياً يضرب ما ارتضينا بها حدوداً بعد سايكس بيكو، ويعيد رسمها مجدَّداً.
ثمَّة مشروع نفَذ الى ايامنا مطلع العام 2011. عندما خرَج بعض الشباب والمثقفين والطلّاب في دول عربية، وطالب بالإصلاح والحريات والتغيير، وما لبثَت كلّ دولة شهدت هذا النوع من الحراك «الثوري» أن تحوّلت بنحوٍ قاتل الى الفوضى والانقسام والتدمير.
لا شك في أحقيّة المطالب التي رفَعها كلّ حراك موقّع بأحلام الشباب والنخبة الوطنية والمثقفين الانقياء. في كلّ دولة من دول ما أطلقت عليه واشنطن «الربيع العربي» كانت هناك مشكلات وفواتير داخلية مستحقّة، وكانت ثمة مطالب تمحورت عموماً حول عناوين الاصلاح والمشاركة السياسية ومكافحة الفساد.
وبهذا المعنى كانت دولنا الوطنية في حاجة الى «ترميم» وليس الى الهدم الذي حصل وأفضى الى اتساع رقعة الفوضى والتشظّي والعودة الى الهويات الضيّقة.
عندما نتحدّث عن «الهويات الضيّقة» نقفز فوراً الى صلب الموضوع. الغرب الذي زرع اسرائيل في بلادنا منذ مئة عام عقب سقوط السلطنة العثمانية، لم يستطع إيجاد شرعية لهذا الكيان على رغم الحروب المدمّرة والاجتياحات والاحتلالات والتهجير والاستيطان. حتى مسار التسوية السلمية وتوقيع معاهدات السلام مع مصر والأردن والفلسطينيين فشل في التعامل مع اسرائيل عنصراً طبيعياً بين «جيرانها».
ما العمل؟ لا بدّ إذاً من جعل المنطقة حول اسرائيل مثلها وعلى شاكلتها، دولاً دينية مذهبية طائفية قبلية عشائرية، تُبرّر وجود «الكيان اليهودي» وتخلق له المسوّغات التاريخية في بيئة شرق اوسطية ترتكس نحو الخلف وتتقاتل على الماضي وليس من أجل المستقبل.
عملية إيجاد «اسرائيليات» حول اسرائيل بدأت. ولم يكن غزو العراق ودفعه نحو التفتيت سوى بعض المقدّمات لدفع المكوّنات الثقافية في المنطقة الى التحفّز والصدام والانقسام المذهبي والاثني والعرقي.
وهذا ما ينسجم تماماً مع ما تفرزه النخب الاستعمارية الغربية الليبرالية منها والمحافظة، وتلك التي تعتبر أنّ العرب والمسلمين ليسوا سوى عشائر وقبائل وطوائف وينبغي إعادتهم الى هذا الواقع، لأنّ الدول التي أخذوها بموجب اتفاق سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا كثيرة على عقولهم وإدراكهم وسلوكياتهم!
ما تقوم به «داعش» والتنظيمات الارهابية بمختلف تنويعاتها ليس سوى تنفيذ حرفي لهذا الاعتقاد الغربي. وكلّ ما حدث بعد انطلاق احداث «الربيع العربي» يصبّ في الاتجاه ذاته: التفتيت والتقسيم والتهجير والتخريب وهدم المعالم الاثرية والتاريخية لبلداننا. كأنهم يريدون منطقة بلا ذاكرة وبلا تاريخ، أو كأنهم يريدون لكلّ جماعة ثقافية أن تستأنف تاريخها الجديد على تقويم نشوء الدولة وقيامها في إسرائيل.
كيف نفهم تفريغ العراق وسوريا من المسيحيين؟ والعمل على إبادة الايزيديين والشبك والصابئة وغيرهم من الاقليات؟ وأسلمة الدروز في ادلب؟ وهدم المعابد والكنائس التاريخية الأشورية والسريانية والكلدانية؟ كيف نفهم هذه الهمجية وبأيّ سياق نضعها؟
بعد الفوضى والتشظي والتفتيت، يبدأ العمل على بعث هويات جديدة، منبثقة من الواقع الجديد، فيصبح السنّي سنّياً، والشيعي شيعياً، والدرزي والمسيحي والعلوي، وهكذا حتى نعود جميعنا الى هوياتنا «الصغيرة» مغادرين الهويات الوطنية أو القومية أو حتى الاسلامية. وتصير إسرائيل بحكم قدراتها والدعم الدولي الذي تناله سنوياً أقوى وأهم دولة في المنطقة يريد الجميع أن يخطب ودّها.
في فيلم «أيام السادات» يصرخ الرئيس انور السادات في وجه أحد محدّثيه مبرّراً انعطافاته السياسية قائلاً: «إلّي مش شايف إنّ 99 في الميّة من أوراق اللعبة بإيد أمريكا يخبط راسو في الحيط»، والجملة نفسها تصحّ على الذي لا يريد أن يرى أو يعترف بوجود «مشروع اسرائيلي» يتقدّم في المنطقة، على رغم وجود قوى لا تزال تقارعه وتقاتله وتهزمه بالنقاط.