لا تعني الشراسة الاستثنائية التي يعتمدها «حزب الله» في معركة الزبداني سوى ما تعنيه جغرافياً. أي أنها جزء من الحملة الإستراتيجية (كلمة كبيرة!) لتأمين عمق الخط الحدودي اللبناني الشرقي الواصل مع الساحل الشمالي السوري حيث القلعة الأخيرة المفترضة للسلطة الأسدية وأتباعها.
يمكن أن يلهج، كثيراً وطويلاً، مذيعو بيانات وسياسات ونظريات «حزب الله»، في بيع وترويج قصة محاربة الإرهاب التكفيري لتبرير ما يفعله في سوريا. لكن ذلك كله، في تفاصيله كما جملته، لا يغطي شيئاً من الحقائق التي توضّحت بعد معركة القصير في أيار من العام 2013، حيث جرى تدمير البلدة بطريقة تمنع أهلها، العاديين، غير المقاتلين ولا «الإرهابيين» ولا «التكفيريين»، من العودة إليها! وحيث تبيّن أن ذلك كان البداية الفعلية لإطلاق المشروع الخطير الخاص بالتطهير العرقي في مجمل المنطقة الممتدة من ريفي حمص وحماة الغربيين الى الزبداني مروراً بالقلمون.. وصولاً الى «التجربة» في عرسال!
لكن قراءة الخريطة القتالية تلك وأهدافها، شيء، والذهاب في الافتراض أن «حزب الله» يعمل على تنفيذ الشق المتعلّق به من ذلك المشروع، شيء آخر! ولا بأس من الإقرار، بأن مدعاة ذلك، هو الشك الإيجابي بامتلاك صنّاع القرار فيه، القدرة الذهنية الكافية لتبيان الخطورة الاستثنائية، المرحلية والدائمة، لمعنى الانخراط في مشروع استئصالي، مذهبي أولاً وأخيراً وأساساً وتفريعاً! ولاستشراف خطورة التلاعب بالديموغرافيا في منطقة متنوعة ومتعددة ومشتعلة إلى هذا الحد!
خاب الظن. وضرب اليقين الشك في نافوخه!
..صار صعباً ومستحيلاً، الاعتقاد بتلقف ذلك الحزب، أي محاججة تستند إلى منطق سياسي أو قيمي أو إنساني. من نوع أن سوريا مثلاً أكبر من أي نظام عابر فيها، ومن «مصلحة» «المقاومة» (إذا صحّت الحجّة؟!) أن تربط مع الدائم وليس مع العابر! وأن ما يحصل فيها لا يمكن أن يكون شغل عصابات تكفيرية أو إرهابية، بل شيء آخر، واقعي تماماً ويستند إلى أسس قائمة وليست متوهّمة. وأولها أن الطغمة الحاكمة والمتحكمة فيها، هي طغمة فعلاً، وفئوية وليست حزبية! ومناطقية وليست وطنية! ومستبدة وليست عادلة! ومافيوزية وليست شرعية (أو قانونية!) وفاجرة وليست عاقلة! ومدّعية وليست واقعية! أي أنها تدّعي، ومستعدة لأن تدعي أي شيء، من أجل إبقاء إمساكها بالسلطة والقرار.. وإن كل ما فعلته منذ بداية البدايات في ذلك الآذار من العام 2011 حتى اليوم، يؤكد «المشاعر» الأولى لعموم السوريين حيالها، ووعيهم الدقيق لطبيعتها!
وصار صعباً ومستحيلاً افتراض تلقّف ذلك الحزب، أي محاججة تستند إلى النظرية القائلة بردعيات النص الديني، والتراكمات الموروثة عن الظلم، والحلال والحرام. عدا خروجه في ذاته الى العلن كأحد إفرازات «ثورة» انطلقت باسم «مستضعفين». كما المحاججة، بأنه يعرّض نفسه للانكشاف الخطير والمرير، إزاء عدو جاهز للانقضاض عليه. مثلما يعرّض نفسه وقيمه و»مقاومته» للاحتراق في الوجدانين العربي والاسلامي العامّين. مثلما يعرّض المصلحة الوطنية اللبنانية العليا لأخطار ارتدادات «حربه» تلك في سوريا على النسيج الأهلي (المذهبي) الدقيق والمهزوز في الداخل اللبناني.. مثلما يعرّض نفسه وعناصره لخسائر لن تكون هيّنة ولا بسيطة. مثلما أنه لن يكون قادراً على «حسم» الحرب وإن كان قادراً على الحسم في معارك متفرقة فيها. مثلما أنه يخطئ التشخيص من أساسه، إذا افترض أن السوريين يمكن أن يعودوا الى الخلف أو أن يرضوا باستبدال سيطرة خارجية مختلفة عن أكثريتهم، في المعطيين القومي والمذهبي، بسيطرة نظام انكشف أمامهم تماماً وصارت عداوته قصة حياة أو موت.. ومصيرية بالتمام والكمال.
لكن ربما يفيد تذكير أهل الإستراتيجيات في «حزب الله» ومرجعيته الإيرانية، بأن إسرائيل، جرّبت المستحيل على مدى سبعة عقود لتنفيذ «الحل الأخير» مع الشعب الفلسطيني ولم تنجح! وحاولت، وهي ما هي عليه بالقدرات والرعايات، أن «تحلّ» معضلتها الديموغرافية بطرق شتى، من الترانسفير الى «الوطن البديل» الى مصادرة الاراضي والاملاك إلى زرع المستوطنات في كل مكان.. إلخ، ولم تفلح ولن تفلح!
لاعب صغير على مسرح كبير، «حزب الله».. وخطورة هيجانه تكمن في تنطحه إلى لعب أدوار أكبر منه، وتنكّب مهمات سيكون مردودها كارثياً ودائماً، عدا عن أنه يرتبط بمشروع، بدأ أصحابه أنفسهم، في الاختلاف على واقعيته وإمكانياته وأكلافه واستحالته. أم تراه لا يرى ما يجري فعلياً في طهران؟ ام إنه يرى وينكر؟!