لا يقدم المسؤولون الإيرانيون في هذه الفترة شيئاً في أدائهم يختلف عن المألوف فيه، لكن الجديد هو ملاحظة ارتفاع منسوب التوتر عندهم في الإجمال وغياب الفوارق في تصريحاتهم التي كانت تدلّ في الشكل على تمايز في المضمون.
كان طبيعياً ولا يزال أن تصدر التصريحات النارية الطابع والمؤدلجة، عن ضباط الصف الأول في «الحرس الثوري» وعن رموز المحافظين وعن مستشاري «المرشد الأعلى»، ثم عن «المرشد» نفسه الذي يُعتبر صاحب «المشروع الإمبراطوري» والمعني الأول والمباشر بكل الأداء الإيراني، داخلياً وخارجياً.. وموقفه إزاء أي قضية يُعتبر حُكماً قاطعاً لا يُردّ ولا يُناقش.
وكان طبيعياً في المقابل، أن تصدر التصريحات «الملطّفة» والديبلوماسية الطابع والمؤسساتية الغلاف، عن الثنائي رئيس الجمهورية الشيخ حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف.. وقبلهما عن الشيخ هاشمي رفسنجاني، المعتبر أحد أبرز رموز «الثورة» ثم أبرز «الراغبين» بإنهائها لصالح الدخول في «الدولة»!
لكن الحاصل في هذه الأيام، أن تلك الازدواجية الرسمية، التي لا مثيل لها سوى في الدول «غير التامة» (لبنان مثلاً؟!)، وصلت إلى خواتيمها تحت وطأة استمرار تصدّع المشروع الإمبراطوري على المستوى الإقليمي والدولي، وانعكاس ذلك على الداخل من خلال تصعيد «المرشد الأعلى» من وتيرة اصطفافه، و«اضطراره» إلى إلغاء أو تعليق العمل بالموقف الوسطي الذي اتخذه، بين المحافظين والمعتدلين.
وذلك الاصطفاف كانت فرضته في كل حال، «ظروف» الفشل المزدوج داخلياً وخارجياً، وليس ابتعاد «المرشد» عن جذريته، أو اقترابه مواربة أو مباشرة من منطق رفسنجاني أو الإصلاحيين، أو شروط عالم اليوم: داخلياً من خلال العجز عن ملاقاة متطلبات وشروط التنمية. وتراجع الأداء الاقتصادي والمالي جراء العقوبات القاسية، وتنامي أكلاف العسكرة والتعبئة المستدامة، ثم عجز البيان الإيديولوجي عن تقديم وصفات حديثة لأمراض العصر.. وخارجياً من خلال انكسار مشروع القنبلة النووية وضياع ثروات وجهود ومعارك ونزالات حقيقية على كل المستويات وعلى مدى عقدين من الزمن، من دون أي مردود يُذكر!
والفشل ولاّد أزمات، مثلما أن النجاح ولاّد ادعاءات وأُبوّات! ومن علامات الفشل، أن تجد إيران نفسها أمام حقيقة تقول إن قوسها الناري (المذهبي) الذي أرادته أو حاولت أن يكون عنوان «إمبراطوريتها» الواسعة ونفوذها المدّعى و«عظمتها» المشتهاة، صار أو يكاد، عنواناً لانكسارها وانكسار جموحها الفتنوي.. ثم مدخلاً لارتداد بضاعتها إلى داخلها! حيث «يُعاد النظر» من قبل مكوّنات إيرانية كثيرة، أولها الأكراد، بقضية الحقوق والواجبات! والمصائر والحريات!
والواقع أن إيران تستمر في اعتماد تكتيكات قديمة في عالم يتغير.. ارتاحت إلى اختراق جوارها بكل ما أوتيت من قدرات وشعارات، لكنها لم تحسب تماماً حساب ردّ فعل المستهدفين بنيرانها وخروقاتها وسياساتها ومشاريعها الاستحواذية والفتنوية، إلى أن اصطدمت بذلك الرد، من اليمن حيث فشلت محاولتها الانقلابية في السيطرة على ذلك البلد والتحكم به. إلى العراق الذي سيفاجئها بأنه «سيبقى عربياً». إلى سوريا التي صارت مطحنة استنزافية مفتوحة لرجالها وأموالها وشعاراتها. إلى البحرين التي لجمت باقتدار محاولات العبث بأمنها واستقرارها. إلى لبنان الذي لم تستطع تطويعه حتى وإن استطاعت تأزيمه بالتعطيل وازدواجية السلاح!
.. كان مفاجئاً أن يخرج وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أمس بتصريح يهاجم السعودية و«سياساتها التي لا تقوم بها دولة عاقلة» على حد تعبيره، لكن موقفه هذا هو تحديداً وتماماً ما يدلّ على عمق ذلك الفشل الذي أصاب سياسات بلاده منذ أكثر من عقدين من الزمن، والذي أوصل إلى تبخير «الازدواجية الرسمية»، ودفع رجل مثله موصول بالعالم وحقائقه بحكم وظيفته وكثرة أسفاره! إلى أن يكون وزيراً لخارجية «الحرس الثوري».. وإيران دفعة واحدة!