Site icon IMLebanon

مراتب «النأي بالنفس» في زمن «الاتّحاد بإيران»

 

«النأي بالنفس» الذي يجري العمل عليه اليوم، يُفترض به في أقلّ تقدير أخذ العبرة من تجارب «النأي بالنفس» المجهضة السابقة. فهذه الأخيرة، كان يُعنى بها في أحسن الحالات «تهدئة» ظرفية سريعاً ما يتجاوزها احتدام الأحداث والحسابات الإقليمية المختلفة، لا سيّما حسابات «صاحب السلاح»، وفي حالات عديدة تفاهمات لا تطبّق من الأساس، أو يسهل الالتفاف عليها.

كي يكون النأي بالنفس ممتلكاً لحيثيته، لا بدّ أن يرتبط بما يتجاوزه. فيجري النظر إليه كإطار، يبدأ من النقاط المتداولة حالياً، وفي طليعتها وقف الأعمال العدائية والتحريضية ضدّ البلدان العربية، و»العودة» بـ «حزب الله» إلى لبنان، إنّما يفتح المجال في نفس الوقت، لطرق الموضوعات الخلافية الأساسية، بشكل يربطها بمسعى صميم لإيجاد حلّ للمسألة اللبنانية، بوصفها مسألة كيان لم يرتح منذ قيامه من تعاقب النزعات التغلبية الفئوية عليه، الواحدة بعد الأخرى، إلى أن وصلنا إلى نزعة فئوية تغلبية أكثر مكنة من سابقاتها، وتتجاوز الإرتباطات الخارجية لسابقاتها، بإتحاد تام بنظام ولاية الفقيه والحرس الثوري في إيران.

في نفس الوقت هذا «الإتحاد بإيران» لا يحدث في ظلّ وجود آلاف من رجال «الباسدران» في لبنان، على غرار تجربة الوصاية السورية مثلاً، بل في تبنّي قسم أساسيّ من اللبنانيين للعقائد الخمينية المعمول بها في ايران بعد الثورة، وفي تلقّيهم السلاح والعتاد من ايران، بل أنّ «حزب الله» عندنا يقوم على مفارقة «إيرانية»، فمن جهة، الحزب هو على يمين المؤسسة الحاكمة الإيرانية، على خط المرشد تماماً، ولم يعد في قيادة الحزب منذ سنوات عديدة تمايزات تعكس تلك الموجودة في داخل المؤسسة الحاكمة الإيرانية. أما من جهة ثانية، فالحزب لم يتمكن من «التطبيق التام» لتنظيم الحياة القائم في المجتمع الإيراني بعد الثورة الإسلامية، بالنسبة إلى شيعة لبنان، بل تكيّف تدريجياً مع الواقع اللبناني التعددي، وسلّم بشكل أو بآخر، بحدود، ولو كانت متقدمة، لتأثير النموذج «الثوريّ – النظاميّ» الإيرانيّ على شيعة لبنان. هذه النزعة التغلبية التي يقودها «حزب الله» لا يمكن اختزالها فقط بمجرّد «إمتداد لإيران»، وإنّما بحالة «إتحاد بإيران» متعددة المستويات، بحيث يكون الحزب على خط الأكثر تشدّداً في المؤسسة الحاكمة الإيرانية، لكن عملياً في موقع أكثر رغبة في تيسير المعاش، وفي التفاعل مع التعددية الدينية والثقافية والسياسية، ولو كان تفاعلاً ما زال يحتكم فيه قبل أي شيء آخر لوزنه من حيث هو «صاحب السلاح».

النأي بالنفس لا يمكن أن يعني سيراً مباشراً واضح المعالم نحو «حلّ» معضلة السلاح. لكن، كي يكون نأياً بالنفس قابلاً للتنفس، والعيش، والاستدامة أكثر من بضعة أسابيع تهدئة «ولحلحة»، فلا مهرب من ربطه بآلية لمقاربة المسألة اللبنانية، من حيث هي قبل كل شيء آخر، مسألة نزعات تغلبية تعاقب في تاريخ هذا البلد إلى أن وصلت إلى النزعة التغلبية التي يمارسها «حزب الله» ويقودها، وهي نزعة تختلف عن سابقاتها ليس فقط من حيث منطق «إتحادها بإيران»، لكن، كذلك الأمر، من حيث كون حالتها «الجهادية الدائمة» هذه لا تسمح لها بمجاراة ما سبقتها اليه النزعات الهيمنية السابقة من عمل للتصدّر المباشر لواجهة الدولة اللبنانية.

فإذا كانت غاية كل نزعة فئوية اقتدارية أو تغلبية سابقة أو مختلفة عن تلك التي يمثلها «حزب الله» هي تبوؤ أعلى المناصب في الدولة المخصصة لطائفتها، أو إكسابها لطائفتها إن لم يكن ذلك متوفراً، أو زيادة صلاحيات هذه المناصب أو شاغليها، وخلق تراتبية جديدة في «ميكانيزم» المحاصصة الطوائفية لصالحها، فإنّ «مملكة حزب الله» هي إلى حد ما، لكن إلى حد نوعيّ، ليست «من هذا العالم»، لأنّها تفضّل أنّ تتمترس وراء هذا العالم – الواجهة، وراء الدولة اللبنانية ومؤسساتها، ومن ضمن تمثلها في البرلمان ومشاركتها في الحكومة.

وضعية «التمترس» وراء الدولة ومؤسساتها، وكذلك «التترس» بأخصام الحزب، هي وضعية صعبة التماشي مع فكرة «النأي بالنفس». التمترس وراء الدولة ومؤسساتها، والتحكّم بمقاليدها ووجهتها تماماً دون الإستفراد بالحكم، أي إحلال «صاحب السلاح» مكان «صاحب السيادة» دون أن يشغل الأول موقع الثاني تماماً، كل هذا لا يمكن تأجيله و»النأي بالنفس» بشكل منقطع عنه. إذ يلزم هذه النفس في نهاية الأمر التنفس، والتنفس يكون بالإستعداد للربط بين «نأي الحد الأدنى»، أي وقف الأعمال العدائية والتحريضية للحزب ضد البلدان العربية والعودة برجاله إلى لبنان، مع «نأي كبرنامج تراكميّ»، ينطلق فعلياً من تحديد المشكلة العامة (نزعات التغلب في تاريخ هذا البلد) ثم المشكلة الرئيسية حالياً (نزعة التغلب التي يقودها «حزب الله»، بالإضافة إلى مجموعة من «بقايا النزعات التغلبية» هنا وهناك..)، ليطرح السؤال، أولاً، عن كيفية تجاوز منطق إتحاد جماعة من اللبنانيين بإيران إلى منطق علاقات لبنانية – إيرانية سوية (وهو ما يبدو أشبه بالمستحيل اليوم) بالتوازي مع علاقات لبنانية ـ عربية متعافية، منطلقة من انتماء لبنان إلى محيطه العربي.