IMLebanon

في المثال البصراوي..

 

تدلّ تظاهرات ومواجهات البصرة على شيء عراقي وأشياء إيرانية.. والقرب في الجغرافيا يوازيه قرب في المسارات والمآلات تبعاً لسياسة واحدة أنتجت خلاصات واحدة أو تكاد، في المكانين!

 

إحتجاجات البصرة تختصر الأحوال العامة التي وصل إليها العراق في مجمله بعد 15 عاماً على سقوط نظام صدام حسين، وتدرّج شؤون الحكم والتسلّط بعده وصولاً إلى إحكام طهران السيطرة شبه التامة على مركز القرار في بغداد ومعظم الصنّاع المحلّيين لذلك القرار.

 

ويمكن اختصار ذلك المسار بالاستناد إلى “نظريّة” يعتمدها الطغاة وخصوصاً “الطهرانيين” منهم، أو المتعفّفين عن أشكال وبهرجات السلطة لصالح مضمون هذه السلطة.. وهي (النظرية) القائلة بأن الفساد صنو الولاء. وشرط حاسم لدوام الإمساك بالرقاب الحاملة لجسم الحكم. وكانت هذه واحدة من أبرز عناوين زعامة حافظ الأسد وترؤّسه المديد لدولة صعبة مثل سوريا. بحيث أن الروايات كثرت وشاعت عن سيرته الذاتية “المتقشّفة” وعن سيرة أولاده وعاديتها وبُعدها عن سير وسلوكيات أقرانهم من ذوي النفوذ والتمكّن البعثيَّين..

 

وكانت، هذه أيضاً، لكن بحدود أقل مسرحة، سيرة جمال عبد الناصر الشخصية. و”عاداته” في الأكل مثلاً، التي أوجعت رأس كل من جلس إلى مائدته، على ما يروي كبير رواته محمد حسنين هيكل.. والتي توّجت بخبريات صحيحة منها طلبه قرضاً شخصيّاً من إحدى المؤسسات لتمويل زفاف ابنته، أو أنه مات وفي حسابه أقل من خمسين جنيهاً مصريّاً!

 

وعبد الناصر هو المثال الذي تشبّه به الأسد الأب في السيرة الشخصية اللافتة تلك. لكن الإثنين كانا يعرفان أن الطهرانية ليست عدّة حكم فردي مديد.. بل هي في المعنى الشخصي المباشر الخاص بكل منهما، شرط أكيد للريادة والسيادة على الأتباع الذين لا بدّ منهم! والذين يحملون على عاتقهم “تنفيذ” السلطة. وهؤلاء يُمسَكون مسلكياً بقدر ما يُمسَكون وظيفياً. وفسادهم الأكيد المتأتي عن النفوذ وصناعته، هو جزء من “كفاءاتهم” المطلوبة عند صاحب القرار. وكلما زاد فسادهم زاد ولاؤهم لوليّ النعمة من جهة، وزادت القدرة عند ذلك الوليّ للتحكم بهم ومنع الشطط وتثبيت الانضباط والإذعان التامّين، من جهة أخرى!

 

أنتج المثالان السوري والمصري تركيبة عرفت كيف تحافظ على السلطة لكنها في الخلاصات أسست لكل ما جاء لاحقاً من “تهتّك” مؤسساتي زبدته الفشل في إنتاج دولة طبيعية تامّة.. وإن كانت مصر في كل حال، أمتن وأعصى من التفكّك والاهتراء.

 

وصدّام حسين بدوره اشتغل وفق تلك النظرية التحكّمية، لكنه اختلف عن غيره بأنه لم يكن معنياً بأي تواضع! ولا بإظهار أي عفّة نفس! وكانت شكليات السلطة عنده مهمة بقدر مضامينها.. واعتمد على ثنائية العائلة والحزب لكنه لم يتردد لحظة واحدة في توسيعها إلى ثلاثية لا بدّ منها، بحث صار الفساد متمّماً شرطياً لآلة الاستقرار والانضباط والامساك والتمكّن.

 

.. جاء الإيرانيون إلى العراق على جثّة صدّام ونظامه. لكنّهم حكموا بروحية ليست بعيدة عن روحه! اتّكأوا على البُعد المذهبي لتركيب الولاء لهم! واكتشفوا سريعاً أن المال رابط لا يقل متانة عن روابط العقيدة الجامعة ولا عن الشغف المألوف في عوالمنا للوصول الى النفوذ السلطوي والمشاركة فيه من أبواب الأطر الدستورية الرسمية، أو “الرديفة” المتّصلة بالأحزاب والميليشيات المسلّحة!

 

بذلك، اهتمّ الإيرانيون بالعصب والمضمون أي إحكام السيطرة والنفوذ، وتركوا لأتباعهم شكليات تلك السيطرة وذاك النفوذ. وهذه لم تعنِ شيئاً سوى استلحاق عراقي محلّي بالإيرانيين، بزّ أو ربما قارب، استلحاق لبنانيين كثر بالوصاية الأسدية! لكن المفاجئ في المثال العراقي، هو وصول الفساد إلى مصاف فلكية لم تكن لتخطر في بال المثال اللبناني!! وهذا في كل حال لم يمنع إنتاج “حالة” متشابهة في المكانين، بحيث أن الفساد الذي كان صنو الولاء، منع إنتاج حلول تنموية مثلما منع قيام دولة مقتدرة بالمعنيين الحاسمين: القانوني والمؤسساتي.

 

إلا أن المعطى الخلاّب في المحصّلة، هو أن الفشل السوري في لبنان ارتد لاحقاً على سوريا نفسها! والبضاعة السلطوية التي صدّرها آل الأسد، إلى الجار القريب باعتبارها أحد مفاتيح التحكم والسيطرة، عادت إليهم على شكل وباء سرعان ما انفجر في عصب النظام وأحاله حطاماً.. والبصرة في هذا القياس هي تكثيف لبضاعة عراقية التسويق إيرانية التصنيع. وتعود بدورها إلى مصدّريها! وفرادة اللحظة البصراوية هذه تكمن في حتميّتها من جهة، وفي تزامنها مع انهيارات تلوح في كل مكان داخل إيران من جهة ثانية.

 

وفي العراق وإيران مثلما هو الحال في لبنان وسوريا خلاصات حسابية ثابتة لمعادلة التحكّم بالسلطة عبر ازدواجية الولاء والفساد، بما يعنيه ذلك حُكماً وحتماً: الفشل في إنتاج دولة القانون والمؤسسات، ثم الشروع في تلقّف تداعيات هذا الفشل بكل معانيها، الكارثية والخرائبية!