IMLebanon

في وجه مَن يقرع جنبلاط الأجراس ولمن يُلوّح بورقة الاعتزال السياسي ؟

في اطلالته الاعلامية الاخيرة اوحى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط بوضوح انه بات قاب قوسين او ادنى من طي صفحة مسيرته السياسية الطويلة والانتقال الى حيز الاعتزال السياسي.

لا ريب ان الموقف لم يحدث الدهشة الكبرى في من يفترض ان يدهشوا ولم يترك الصدى والدوي المفترض لاعتبارات عدة خصوصا ان زعيم المختارة سبق له ان اطلق هذا النوع من الكلام ولوح براية مثل هذه الخيارات المثيرة للجدل وافصح عن الرغبة في هجران العمل السياسي وفضل في احداها ان يكون زبالا في نيويورك على ممارسة فعل السياسة في لبنان فيما نقل عنه ايضا في احدى المرات عزمه على الهجرة الى باريس لكي يهتم بالتراث عبر مؤسسة ينشئها لهذه الغاية الحضارية .

وعليه فان السؤال الذي انتصب في اذهان كثرة هو هل ان زعيم المختارة جاد هذه المرة في كلامه ام انه اراد اطلاق رسائل متعددة الاتجاه وانه سيجد مبررا للعودة عنه وبالتالي استئناف رحلة الزعامة السياسية التي باتت علامة فارقة وقد ألبس عباءتها مباشرة بعيد اغتيال والده المعلم كمال جنبلاط قبل نحو 39عاما ؟.

واستتباعا لهذا السؤال ثمة سؤال اخر يفرض نفسه تلقائيا وهو ما الذي دفع بجنبلاط في هذه المرحلة بالذات الى التلويح بهذا الخيار واستطرادا الى الاقرار برثاثة الوضع السياسي ورتابته وانسداد الافق امام التركيبة السياسية المتربعة منها على دست الحكم والمتمثل منها بالاحزاب والقوى السياسية وصيرورتها الى انفصام مع الشريحة الواسعة من الجمهور وتطلعاته وجموحه نحو التغيير والتطوير والتحديث ؟.

يبدو جليا ان رئيس التقدمي لم يبلغ فجأة هذا المبلغ من القرف السياسي والذي يوشك ان يدفع به نحو اليأس والقنوط والزهد بممارسة السياسة والسلطة الى درجة الاعتكاف والاعتزال . فقبيل ايام قليلة كان له كلام مميز ذكر فيه صراحة ان الناس لم تعد تصدقه وتصدق كلام السياسيين الآخرين وهو ما اوحى للعارفين بخفايا الشخصية الجنبلاطية وتقلبات احوالها بأنه على وشك اعلان ” الانتفاضة ” على الواقع السياسي الذي يدور في حلقة قاتلة من الخواء والفراغ منذ فترة ليست بالقصيرة .

تفسيرات وتأويلات عدة اعطيت للخطوة الجنبلاطية التي جاهر بها ليل اول من امس بصرف النظر عن مآلاتها الجدية المنتظرة

فهو ربما ارادها من باب احداث صدمة سياسية يكون لها فعل الزلزال في فراغ سياسي موصوف ومزمن لا يجد فيه كثرة من السياسيين المخضرمين والمحترفين غضاضة في الاقرار بأنهم صاروا اسرى العجز عن الفعل او تغيير المقدر المكتوب وان مفتاح الوضع السياسي عموما بات حصرا بيد فئة دون سواها او هو رهن اشارة اللاعبين الاقليميين ليس الا .

الى جانب ذلك ثمة من يرى بأن جنبلاط الخبير في استشراف اللحظة المناسبة اراد ان يرفع لواء الاعتراض على مسار سياسي معين لم يعد فيه وبالتحديد في الحيز السياسي الاقرب اليه صاحب الكلمة الراجحة التي لاترد لاسيما بعد تجربة اشتباكه السياسي الذي اتصف بالحدة مع وزير الداخلية نهاد المشنوق. فهذه التجربة التي وان انطوت ظاهريا في اعقاب اتصال زعيم المستقبل الرئيس سعد الحريري به والذي خلص الى التفاهم على تطويق تداعيات ما حدث توطئة لاعادة الامور الى المربع الاول الا ان ثمة منهم على تواصل مع جنبلاط اوحوا بأن بيان “كتلة المستقبل” واصرار المشنوق على مواصلة السجال واستخدام عبارات غير مسبوقة ترك فعله السلبي لدى زعيم المختارة اذ اشعر الرجل انه صار بمنزلة العدو من جانب رموز اساسية في التيار الازرق من دون مراعاة لتاريخ العلاقة بينه وبين ذلك التيار وما تخلله من رحلة سياسية عريقة مشتركة وذلك على الرغم من التبريرات التي اعطيت لما حصل بغية التخفيف من السلبيات . وبمعنى آخر عززت التجربة السياسية الاخيرة قناعة لدى جنبلاط كانت بدأت تتبلور منذ زمن وفحواها انه صار غريباً عن المشهد السياسي بكل مكوناته وتعبيراته . فحسابات مصالح هذه الايام تحولت عن سني ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري مباشرة والتي رفعته الى الصدارة المطلقة لفريق ومحور كان لعهد قريب وارف الظل موحد الكلمة والحسابات .

وعلى المقلب الآخر لم يعد جنبلاط يجد صورته الا في الرئيس نبيه بري الذي بحكم خبرته يعرف نقاط التلاقي ولحظات الافتراق ولكن بري بدا مثله مثقلا بحسابات متشعبة ومعقدة تجعل من حركته بطيئة ومترددة ومن مبادراته محدودة الافق بخطوط حمر ترسمها حسابات حليفه “حزب الله ” الجامحة التي لا تعترف بقيود أو تراعي حدود امور محلية .

وبمعنى آخر بات جنبلاط يدرك انه في عداد نخبة سياسية قيض لها ان تمسك بنواصي السلطة ولكنها ليست بأفضل حالاتها لا بل انه واستنادا الى تصريحات جنبلاط وتلميحاته باتت نخبة مأزومة محاصرة بالقصور والعجز عن الفعل وظلاً لواقع اقليمي اكبر منها وهو واقع متطاحن تصادمي الى اقصى الحدود فضلا عن ان تجارب الاعوام التي تلت عام 2008 افقدتها مزية التناغم والتلاقي على شعارات كبرى جاذبة فتفرقت اشتاتا وايدي سبأ.

وعلى المستوى الاقليمي باتت مؤشرات الاستشعار التي طالما تباهى بأنها لا تخطئ على بينة من ان حسابات القوى الاقليمية والدولية المعنية بالوضع اللبناني اكبر واعقد من حسابات جنبلاط ومصالحه لاسيما وان سيد المختارة اختار منذ زمن ان يصرم حبل التواصل مع عواصم مثل موسكو وطهران ودمشق فيما حسابات عواصم الخليج وفي مقدمها الرياض صارت في مكان ابعد .

باختصار ما قاله جنبلاط اخيرا يعبر في كثير من جوانبه عن انسداد افق مرحلة بغالبية مكوناتها ورموزها كان فيها النجم الذي لا يستغنى عنه ولعب فيها الى درجة الاستهلاك وانفتاح الابواب امام مرحلة حساباتها اطرافها كبيرة جدا لدرجة دفعت شخصية بوزن جنبلاط الى التلويح بالاعتزال السياسي تعبيرا عن غربتها واغترابها عن واقع الحال .