IMLebanon

في الذكرى الخمسين للهزيمة: سنظل في بلادنا ولها..

نعيش في ظل نظام مقطوع الرأس، مشلول القرار، لا يحترم رعاياه، ولا تقر دولته بحقوقهم فيها وعليها. مع ذلك نلتفت إلى محيطنا الذي تتفجر دوله وتتشظى فنكاد نشكر الله على نعمه: ليس خطر الحرب الأهلية داهماً.. وبرغم كل شيء فما تزال الحياة ممكنة، أقله لكبار السن، في هذا الوطن الجميل الذي يودع شبابه كل صباح وقد قرروا مغادرته ـ أو دفعهم أهله إلى مغادرته ـ ليكون لهم مستقبل في بلاد التيه البعيدة.

نلتفت بالخوف إلى محيطنا الغارقة دوله ذات التاريخ المضيء في دماء أهلها الذين كانوا صناع الحضارة وأمجاد الأمة، فيأخذنا الرعب عليها ومنها وعلى مستقبلنا في أرض هذا الوطن الصغير الذي يضيق بأهله.

يمتد دهر الهزيمة فينا وفي أبنائنا والأحفاد فيشمل حياتنا بوجوهها كافة: يخنق الآمال والتمنيات، يسحق فينا إيماننا بأنفسنا وبقدراتنا. يرجعنا إلى جاهلية تغربنا عن ذاتنا. نهجر أسماءنا الحسنى. نهرب إلى الأسماء التي يعرف أن ينطقها «الآخر» فيقبلها. نشتري هوية ليست لنا. نلغي تاريخنا.. نحوله إلى كوميديا سوداء. نستعير مستقبلاً لم نسهم في صنعه ولا يحفظنا حتى ونحن نخدم جنوداً لحمايته، أو مرتزقة في جيوشه التي يبعث بها لاحتلال بلاد الغير بذريعة حمايتها من أهلها.

خمسون عاماً من الهزيمة التي لا تفتأ تستولد هزائم جديدة وتمد ظلالها السوداء فوق بلادنا فتُسقِط إيماننا بأنفسنا، بقدراتنا، بأهليتنا وحقنا في التغيير. نُسلِّم بالواقع الذي يلغينا، إذ نصير فيه أرقاماً بلا مجموع.

كيف تكون «خير أمة أُخرجت للناس» ولا مصر بكل دورها الحاسم في النهوض والقيادة… بل هي اليوم مغيبة عن ذاتها وعن موقعها القيادي، غارقة في همومها التي تضيعها بين الجوع والخوف من إذلال العدو في ظل الحكم بالعسكر الذي كان مدخراً لتعويض الهزيمة بنصر مؤزر.

… وسوريا غارقة في دمائها، وشعبها الفقير المؤمن بأمته العربية، المعتز بتاريخه وبدوره القومي سواء في مقاومة المشروع الإسرائيلي وفي إثبات القدرة على بناء غده الأفضل بجهوده وعرقه ودمائه حتى دعاه الواجب ليس داخل حدود «قطره» فحسب بل في أي قطر آخر، وصولاً إلى الجزائر غرباً وإلى اليمن جنوباً؟

… والعراق منقسم على ذاته، يعاني من «الأمراض اللبنانية»، ويكاد يستعير «الصيغة» التي لا تبني أوطاناً لحفظ دولته المتهالكة والممزقة بالطائفية والعنصرية والنزعات التقسيمية، والتي تتزاحم في سمائها الطائرات الحربية للدول ذات المطامع الاستعمارية مهذبة الآن بادعائها تلبية النجدة لحفظ دولة هارون الرشيد؟!.. ثم أن الفقر يضرب عزة شعبه بعدما نهب «القادة» الذين اصطنعهم الاحتلال موارده، وأذلوا أهله بما مكّن «داعش» من أن يجتاح «أرض السواد» فيشطرها دولاً شتى، يستنجد بعضها ضد البعض الآخر بالأجنبي.

والسعودية تخلع العباءة والكوفية والعقال وترتدي البزة العسكرية ليس لقتال العدو الإسرائيلي بل لمكافحة «الإرهاب اليمني»، فتطلق طيرانها الحربي لضرب مركز الحضارة الأولى في التاريخ الإنساني، مثيرة المزيد من الفتن الطائفية، بادعاء محاربة الهيمنة الإيرانية على مملكة سبأ، مغذية أسباب التقسيم بين اليمنيين على قاعدة مذهبية… مفترضة أنه قد آن الأوان لقيام إمبراطورية السيف والذهب فوق الأرض العربية جميعاً، وهكذا تغذي الفتنة في العراق، وتهدد باقتحام سوريا عسكرياً إذا عجزت فصائل المعارضة المسلحة عن تهديم الدولة في دمشق… ثم ترتدي دور الجامع بالخير بين الأطراف السياسية في لبنان، وبعضهم قديم في خدمتها حتى الإدمان، والبعض الآخر مستجد بادر إلى استنقاذ نفسه واللحاق بطابور المؤمنين برسالة دولة السيف والذهب، ولو أخرجتهم من وطنيتهم وعروبتهم ومن العصر جميعاً؟!

أما فلسطين فمتروكة لقدرها الإسرائيلي، في حين ينتظم أصحاب العباءات المذهبة في طابور الساعين إلى شراء الرضا الصهيوني بأي ثمن، مقابل أن يرضى بها شريكاً في الهيمنة على الأرض العربية بعد تحطيم إرادة شعوبها.

هذه بعض نتائج الهزيمة العربية في ذكراها الخمسين. أما وقائعها الجارحة فإنكار الهوية الجامعة، ووحدة المصير، وتآمر البعض على البعض الآخر وتسعير نيران الحروب الأهلية التي تلتهم الشعوب العربية المساهمة في صناعة التاريخ الإنساني.

لكن الهزيمة ليست قدراً… ولن نهرب منها إذا أنكرنا تاريخنا وزورنا هوياتنا واستوردنا لأبنائنا أسماء هجينة، وسعينا فدفعنا الرشى للحصول على «جنسية محترمة».

الهزيمة قدر الجبناء والهاربين من «عار» الانتماء إلى أمتهم إلى «مجد» الهوية التي تلغيهم. وتجربة المقاومة في لبنان في إجلاء المحتل الإسرائيلي سنة 2000، ثم في مواجهة حربه سنة 2006، شهادة قاطعة الدلالة على أن الهزيمة ليست قدراً، ولسوف نبقى في أرضنا لنظل نستحق شرف الانتماء إليها.

.. وكل رمضان وأنتم بخير