Site icon IMLebanon

في أهمية عدم التسرع في إعلان نهاية «داعش»

 

تتنوع المؤشرات وتتوالى المعطيات التي تشي بأن التسابق المتهور في الإعلان عن هزيمة تنظيم «داعش» وسقوط خلافته المشؤومة، قد لا يعني بالضرورة أن كابوس الإرهاب الداعشي توارى نهائياً أو انقشع إلى غير رجعة. فمن منظور أيديولوجي، لا تزال الحياة تدب في أوصال أفكار وطروحات التنظيم المتهاوي، كما تظل العوامل المساعدة على توفير حواضنه الاجتماعية قائمة، إذ ما برحت منطقة الشرق الأوسط، أسيرة للأمراض المزمنة، على شاكلة الاستقطاب الطائفي والصراع المذهبي، علاوة على النزاع الهوياتي وشعور الأقليات والتجمعات الإثنية بالغبن، فضلاً عن تفشي الفقر والقهر والظلم والتمييز والاضطهاد والإحباط واتساع الفجوة بين الأجيال، بالتزامن مع استمرا الانحياز الأميركي الأعمى للانتهاكات والخروقات الإسرائيلية. ولا يستبعد خبراء دوليون أن يعاود «داعش» نشاطه، في حواضن وملاذات مغايرة كشرق آسيا على سبيل المثال. فبحسب تقرير أمنى إندونيسي، تتنامى أعداد الملتحقين بالتنظيم في دول جنوب شرق آسيا وتتزايد قدراتهم الترويجية داخل بلادهم بشكل لافت. كما تتحدث تقارير مماثلة عن تشكيل التنظيم كتيبة خاصة للتجنيد، بالتوازي مع تكوين خلايا نائمة في دول آسيوية كثيرة كسنغافورة وإندونيسيا والفلبين وماليزيا، علاوة على دول الاتحاد السوفياتى السابق.

 

 

أما على المستوى العسكري، فقد خلَّف دحر تنظيم «داعش» وإسقاط خلافته، فراغاً جيوسياسيا لافتا، تسابقت جماعات وميليشيات مسلحة عدة لملأه فى العراق وسورية. وبناء عليه، لم يستبعد مراقبون أمنيون اقتراب ظهور النسخة الثالثة من الإرهاب الجهادي التكفيري، الذي مثَّلت «القاعدة» إصداره الأول، و«داعش» إصداره الثاني، لاسيما بعد أن نجح الآلاف من جنود الخلافة الذين اكتسبوا قدرات قتالية وفنية فارقة فى الهروب من العراق وسورية قبل الإجهاز عليهم، ليعيدوا ترتيب أوراقهم توطئة للعودة مجدداً، سواء بإعادة إحياء التنظيم الداعشى، أو الإعلان عن ميلاد نسخة محدثة من التنظيمات الإرهابية، خصوصاً مع منح قيادة التنظيم صلاحيات أوسع واستقلالية أكبر للخلايا النائمة والذئاب المنفردة حول العالم لضمان البقاء المؤثر على الساحة العالمية لأطول مدى زمني ممكن. ويحدث ذلك في الوقت الذي تشكو أوساط سياسية عراقية من سعي مجموعات مسلحة غير منبتة الصلة بـ«داعش»، مثل «الرايات البيض»، و«المتطوعون» و«خراسان» و«السفياني»، التي تنشط بين جنوب كركوك وشمال ديالى، إلى خلافة التنظيم الإرهابي بعد هزيمته واضطراب الأوضاع داخل إقليم كردستان العراق إثر تدهور العلاقة بين إدارته والحكومة العراقية على خلفية الاستفتاء الكردي الأخير للانفصال عن بغداد.

 

من هنا، تبدو جلية أهمية المقاربة التنموية كآلية ناجزة لإيصاد الأبواب أمام عودة «داعش» ومن على شاكلته من الحركات التكفيرية والتنظيمات الجهادية، من خلال دعم المجتمع الدولي لجهود إعادة إعمار وتأمين وتأهيل المناطق المحررة في العراق وسورية، وإعادة المشردين والنازحين واللاجئين إلى بيوتهم، وتوفير سبل العيش الكريم والحياة الملائمة لهم، بالتوازى مع تقويض النزعات الطائفية وتنقية الخطاب الإعلامي وتطهير نظام التعليم والخطاب الديني من الرواسب المشوهة والمضللة التي خلَّفها التنظيم الإرهابي قبل دحره. فمن شأن هذه الجهود مجتمعة أن تقوض الحاضنة الاجتماعية التي طالما استفاد منها التنظيم الإرهابي في ما مضى، ولا يزال يتطلع إلى استثمارها للعودة، وإن في صورة مغايرة أو تحت مسمى آخر. ومن منظور تنظيمي، برأسها تطل احتمالات انبعاث تنظيم «داعش» رغم الضربات الموجعة التي تلقاها، خصوصاً مع شروعه في لملمة شتاته تمهيداً لإعادة بناء نفسه عبر طرائق شتى، أبرزها: إعادة التموضع في ساحات القتال: فهناك من يطرح سيناريو تحول مقاتلي «داعش» إلى لاجئين في سورية والعراق، خصوصاً بعدما استغل عدد منهم ظروف الفوضى السائدة في البلدين، علاوة على اتفاقات الإجلاء التي تم التفاوض عليها مع الفصائل الكردية، لإلقاء أسلحتهم والاندساس داخل مخيمات اللاجئين المدنيين، بغرض اتخاذها محطة انتقالية يعيدون من بعدها بناء التنظيم هناك، أو يعبر من خلالها ما يسمى «مقاتلو الخلافة المفقودون» إلى الملاذات الآمنة البديلة فى المناطق الرمادية في ليبيا ودول الساحل الغربي الأفريقي وأفغانستان وباكستان والصومال واليمن وسيناء. وهو ما حذرت منه فعاليات الدورة الرابعة والخمسين لمؤتمر ميونيخ الأمني الذي التأم أخيراً تحت شعار «الهاوية والعودة»، حينما سلّطت الضوء على الترابط الواضح بين الهجرة واللجوء وانتقال المقاتلين الأجانب، عبر اندساس أولئك المقاتلين وسط قوافل اللاجئين والمهاجرين للتخفى والهروب والانتقال من سورية والعراق إلى باقى أنحاء العالم. في غضون ذلك، ظهرت تقارير أمنية تشى بأن غالبية مقاتلي التنظيم لا تزال قابعة فى الرقة والموصل وتعكف على لملمة شتاتها، علماً أن 30 في المئة فقط من إجمالي أربعين ألف مقاتل أجنبى انضموا إلى صفوف «داعش»، هم الذين عادوا إلى ديارهم أو انتقلوا إلى دولة ثالثة. بينما لا يزال يقبع زهاء ثلاثين ألف مقاتل «داعشى» آخرين داخل العراق وسورية. واستبعدت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عودة أولئك المقاتلين لبلادهم، خصوصاً بعدما أضحت تلك العودة أكثر صعوبة من أي وقت مضى جراء رفض بلدانهم استقبالهم، واشتداد وطأة العمليات العسكرية، علاوة على انسداد المسارات التي كان المقاتلون الأجانب يسلكونها أثناء عبورهم بعد التزام الدول التي تمر في أراضيها تلك المسارات بتشديد الرقابة على حدودها.

 

ويتخوف الأوروبيون من التداعيات الخطيرة المتوقعة لعودة مقاتليهم الثمانمئة إلى أوطانهم، كما العودة المحتملة لباقي الجهاديين الأوروبيين المنتشرين فى بقاع متفرقة من سورية والعراق، والذين لم يدركهم الموت أو يفروا إلى ملاذات بديلة، فيما يستسلم كثيرون منهم لقوات سورية الديموقراطية. وبينما لا توجد استراتيجية أوروبية موحدة في التعاطي مع المقاتلين الأوروبيين العائدين، لا يرى رافضو عودتهم وسيلة لتجنب خطرهم سوى رفض استقبالهم، أو إسقاط الجنسيات عنهم، أو الزج بهم لملاقاة الموت فى ميادين القتال في سورية والعراق، أو تلقي أحكام بالإعدام أو السجن لمدد طويلة عبر محاكمات خاصة بهذين البلدين أو في دولة ثالثة.

 

ورجح خبراء نزوع «داعش» إلى تعويض هزيمته في العراق وسورية من خلال الانتشار والتوسع على الصعيد العالمي عبر آليتين؛ تتمثل أولاهما فى تأسيس فروع جديدة في بقاع عدة، وبناء أذرع وخلايا في بلدان متباعدة جغرافياً. ولعل هذا ما يفسر مسارعة التنظيم عندما بدأ يستشعر الهزيمة بتحويل موارده المالية إلى الخارج بغية توفير قاعدة لتمويل خطة التوسع العالمى، الهادفة إلى الاستفادة من الخبرات الدولية وتعلم الأساليب والتقنيات المبتكرة؛ علاوة على تفنيد الاتهامات المستمرة لمقاتليه بأنهم غرباء وأجانب، فضلاً عن الإيحاء بأن التنظيم لا يزال قادراً على تنفيذ عملياته في المكان والزمان اللذين يختارهما، ومن ثم لا يتورع عن توزيع عملياته الإرهابية على بقاع العالم المختلفة بشكل متزامن، بما يجعله يبدو في صورة أقوى مما هو عليه في الواقع.

 

ربما يأتي في هذا السياق تبني «داعش» لاستراتيجية «الذئاب المنفردة»، التي تعرج بالنشاط الإرهابي من التحرك التنظيمي الجماعي إلى العمليات الفردية السريعة التي تتم على نحو مفاجئ ومكثف وموجع في آن، عبر تكثيف تواصله الإلكتروني مع الشباب المسلم الذي أضحى قنبلة موقوتة تفخخ المجتمعات الغربية التي يعيش فيها منقوص المواطنة كما يعاني الاغتراب والغبن والتمييز والشعور بالإحباط والانهزام جراء تعثر عمليات إدماجه فى تلك المجتمعات، فضلاً عن معاناته من إخفاقات اجتماعية أو اقتصادية أو حتى عاطفية ونفسية وإبداء ترحيبه بإعلانهم البيعة والولاء للتنظيم، عند إقدامهم على التنفيس عن غضبهم المتأجج وسخطهم المتفاقم من خلال أعمال عنف أو عمليات إرهابية تكتسي طابعاً أيديولوجياً من خلال ربطها بـ «داعش»، الذي يستثمرها لاستعراض قابليته للتطور والتأقلم مع المستجدات والملمات، علاوة على رفع معنويات مقاتليه المهزومين من خلال تهديد الدول التى جاءت لتقويضه في سورية والعراق.

 

أما ثانيتهما، فتتجلى في اندماج مقاتلي التنظيم مع جماعات إرهابية أخرى، بما يخولهم اكتساب الخبرات. وفي هذا المضمار، تصاعدت احتمالات التنسيق أو الاندماج بين «داعش» و«القاعدة» في بقاع شتى، استناداً إلى اتساع مساحة التقاطع الفكري بينهما، والمتمثلة في اعتناق الفكر الجهادي التكفيرى، علاوة على تلاقي المقاربة التنظيمية والآلياتية لكليهما. وبرغم اضمحلاله، لا تزال هناك بيعات من قبل تنظيمات وجماعات وخلايا إرهابية كثيرة حول العالم لتنظيم «داعش» وزعيمه مجهول المصير؛ أبو بكر البغدادي، إن بجريرة الاستجابة لتحذيرات التنظيم ببطلان شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات الجهادية بعد التمكين وقيام الخلافة، أو بغرض الحصول على مظلة من خلال «داعش» حتى لا تبدو كما لو كانت تعمل بمفردها، بغية استجداء الدعم والتوسع. في الوقت الذى يريد «داعش» أن يظهر للعالم أنه «تعولم» من خلال وجود خلايا وتنظيمات تابعة له تستطيع تنفيذ عمليات إرهابية مدوية في أصقاع العالم المختلفة.