Site icon IMLebanon

في الجغرافيا المستحيلة

 

 

ليس صعباً الافتراض بأن تركيا “ربحت” حتى الآن في إدلب. وتمكّنت من عرض “قضيّتها” بنجاح. وهذه (القضية) تتصل بـ”الأمن القومي” التركي. ثم بـ”المصالح” العليا المربوطة والمتأثرة حُكماً بذلك الأمن، ثم بعد ذلك (أو قبله لمن يشاء) أمكنها أن تضيء مجدداً على البعد الإنساني المغيّب والمغطّى بستار “الحرب على الإرهاب”، واستخدامه كدليل مساعد على صوابية موقفها.. بل هي استطاعت أن تجذب، أو تعيد جذب، عواصم أوروبية فاعلة إلى صفّها انطلاقاً من التلويح بتكرار تدفّق النزوح (عبرها) إلى أوروبا.

 

وللمرة الأولى منذ مباشرة آلة الفتك الأسدية عملها في تدمير سوريا وتحطيم عمرانها وإعمال النكبة بأهلها، أمكن للمعطى الجغرافي أن يكون أَولى من غيره في تقرير المرحلة الراهنة من الحرب في إدلب، بحيث أنّ الاستحالة لم تتأتَ من تناقض أجندات المنخرطين في هذه النكبة، وتنافر حساباتهم الأخيرة، إنما من حقيقة خضوع الجميع (مبدئياً وحتى الآن؟!) لواقع كون أدلب الجغرافية أعقد من أدلب التي تنتشر فيها جماعات مُصنّفة إرهابية. وجغرافيتها هذه لا تختصر فقط كل حالات المعارضة بعد تراجعها في سائر أنحاء “القطر الشقيق” بل تختصر على ما يبدو، تفطيس كل الردحيات والأهازيج والأفراح التي انطلقت (أو تابعت الانطلاق الذي باشرته منذ آذار 2011!) احتفالاً بـ”إنتصار” بشّار الأسد على “المؤامرة الكونية”!

 

ولهذا قد تكون إدلب نقطة انطلاق نحو بداية جديدة، بدلاً من أن تكون نقطة الخاتمة في هذه الحرب.. ومفارقات وعجائب وغرائب مسار النكبة السورية في مجملها، تُبرّر هذا التأويل وتعطيه صدقية ما! وهذا في كل حال، يتلاءم ويتلاقى مع الحقيقة القائلة بأن الانتصارات الفرعية في معارك كثيرة لا يعني انتصاراً في الحرب! وأن موسكو التي “انتصرت” بسهولة ميدانياً لن تستطيع أن تنتصر سياسياً! ولا أن تقرّش تقدّمها على غيرها من خلال دورها العسكري، في الخلاصة العامة المتّصلة بمصير سوريا وشكل نظامها وطبيعة “التسوية” المفترضة.

 

وما أصاب إيران سيصيب روسيا: في اللحظة التي افترضت قيادة “مسيرة الفتوحات والأمجاد” في طهران إنها صارت في ربع الساعة الأخير من الحرب وأن “انتصارها” محتّم، جاءتها أنباء ورياح معاكسة! وتبيّن لها أن الورقة الماسيّة (السورية) في يدها صارت أو تكاد جمرة حارقة. ورميها من اليد شرط سلامة الجسد كله! ودورها ونفوذها في هذه المساحة الجيوسياسية جزء من أهداف مطلوب تحقيقها لإعادتها إلى حدودها. وضبضبة انفلاشها. وقصقصة أظافرها الطويلة من اليمن (السعيد!) إلى شواطئ المتوسط!

 

بدلاً من أن تكون سوريا “ورقة” مساومة ومنصّة نفوذ لإيران، صارت أحد عناوين استهدافها في الخارج، وأحد شروط الكفّ عن استهدافها في الداخل مباشرة وإن كان ذلك يتم على الناعم من خلال العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية والديبلوماسية!

 

وضع روسيا ليس كذلك. لكنها في الموضوع السوري وجدت نفسها، وأيضاً في ربع الساعة الأخير من الحرب، غير قادرة على إعلان “إتمام المهمة”. وأن الوعاء السوري، على أهميته بالنسبة إليها، لا يمكنه استيعاب كل مصالحها! ولا اختصار استراتيجيتها: لا هي قادرة (او راغبة) في تنفيذ قرار غيرها، الولايات المتحدة وإسرائيل لجهة التصدي للنفوذ الإيراني. ولا هي مستعدّة لفتح مواجهة مع الجار التركي تبعاً لتضارب المصالح في أدلب وانطلاقاً منها! ولا هي في الوقت نفسه قادرة على تغطية جريمة كيماوية أسدية أخرى في ضوء المواقف الحازمة التي خرجت من واشنطن والترويكا الأوربية (لندن – باريس – برلين).

 

وبالتالي اكتشفت موسكو الحدود الأخيرة للمناورة! وعدم قدرتها على اعتبار المرحلي دائم. أي إن الجسر الذي بنته في سوريا بدورها العسكري، بين إسرائيل وإيران تحطّم أخيراً بعد الانتهاء من معظم فصول مسرحية الحرب على الإرهاب! وصارت أمام اختيار لا تريده (الآن!) بين صداقتها المتينة مع إسرائيل و”تفهّمها” التام لـ”أمنها” ومصالحها، وبين علاقاتها مع إيران المطلوب الآن السعي إلى نسف دورها في سوريا!

 

وكذا الحال بالنسبة إلى منصّة آستانا التي تريد موسكو بالتأكيد إبقاءها على ما هي عليه باعتبارها دائمة وليست مرحلية في حين تدلّ إدلب منطقياً وعملياً على انتهاء مفعولها وانفراط عقدها الثلاثي: أنقرة وافقت مع موسكو (وطهران استطراداً) على ما وافق عليه الأميركيون والأوروبيون (مرحلياً) لجهة تفضيل السيئ الذي هو بشار الأسد على الأسوأ الذي هو الإرهاب بكل عناوينه، لكنها (أي أنقرة) لا تستطيع ولاعتبارات استراتيجية أمنية قومية حاسمة، القبول بتطور ميداني (أخير) يمكنه أن يعرّض مصالحها تلك لمخاطر حقيقية من خلال السماح بإتمام مذبحة كبرى في إدلب..

 

ولغة المصالح التي جمعت الاطراف الثلاثة في آستانا، هي ذاتها التي تعتمدها أنقرة الآن في وجه شريكيها اللذين لا يستطيعان مبدئياً مجادلتها فيها، أو مطالبتها بالتخلّي عنها لحسابهما.. واستطراداً كي يقول مخلوق مثل بشّار الأسد أنه “انتصر”!

 

الجغرافيا المستحيلة جعلت المنطق التركي ممكناً.. وناجحاً. والبديل عن ذلك، حديث تخريفي عن مواجهات وحروب كبرى!