IMLebanon

في «خسارة» المعارضة وعجز النظام وفشل دي ميستورا

صدق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في توصيفه للوضع الحالي في سورية. سأل المعارضة «هل هي قادرة على أن تتحد وأن تكون واقعية لتدرك أنها لم تربح الحرب»؟ وسأل أيضاً «هل ستكون الحكومة السورية مستعدة للمفاوضات بعد تحرير دير الزور والرقة أم أنها ستكتفي برفع راية النصر»؟ والجواب على السؤالين يعرفه المبعوث الأممي جيداً. ولكن كان الأجدى به أن يتحلى بالقدر المطلوب من الديبلوماسية. أو أقله مراعاة التوقيت. ليس من الحكمة إعلان «هزيمة» المعارضة في يوم إدانة زملائه الأممين المحققين في جرائم الحرب قوات النظام السوري بأنها استخدمت الأسلحة الكيماوية 27 مرة خلال الحرب ومنها في خان شيخون. صحيح أن المعارضة لم تربح الحرب، لكنها لم تهزم ولم تنتهِ فعلاً. ولو سلمت بخسارتها النهائية لانتهت معها مهمته. ولعله نسي تصريحات سابقة له عن عدم جدية النظام في المفاوضات بل عرقلته العملية السياسية في الجولات السابقة. وهي بين أسباب أخرى دفعت سلفيه في المهمة كوفي أنان والأخضر الإبرايهيمي إلى التنحي. علماً أنه يعي جيداً أن النظام كان ولى من زمن لولا دعم حليفيه إيران وروسيا. وهذا باعترافهما معاً. ويعي أيضاً أن الأزمة السورية عسكرها النظام والجماعات المتطرفة التي يقال الكثير عن دوره في تصديرها من سجونه، وعن رعايته ورعاية بعض جيرانه لعناصرها سابقاً أيام الغزو الأميركي، وإثر اندلاع التظاهرات المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة في بلاد الشام. لم يوفق المبعوث الدولي، حتى وإن لطّف مواقفه بالإشارة إلى «أن لا أحد يمكنه القول إنه ربح الحرب».

وصدق «الائتلاف الوطني المعارض» في الرد على المبعوث الدولي بأن تصريحاته «هزيمة للوساطة الأممية»، وأن «عملية جنيف بهذا الشكل تفقد صدقيتها». لكن قادة المعارضة الذين لم يعجبوا بدي ميستورا منذ البداية، يأخذون عليه أنه ينسق خطواته وآراءه بما يتماهى مع الموقف الروسي إلى حد ما، إنما بغطاء أممي. لذلك كان عليهم أن يتوقعوا منه ما قال، فلا يصابون بـ «الصدمة» من مواقفه الأخيرة. وهو ليس الوحيد بين من يدعوهم إلى التعقل أو الواقعية. فهو يقرأ جيداً مثلما هم يقرأون أن «أصدقاءهم» سلموا لموسكو بدورها الأول في إدارة الأزمة السورية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. ولا يحتاج الرجل إذاً إلى مراعاة المشاعر أو التمسك بلغة ديبلوماسية من أولى صفات الوسطاء أو المبعوثين. منذ ثلاث سنوات وهو يتابع تنفيذ رؤية روسيا للتسوية. وما دام هناك شبه إجماع إقليمي ودولي على هذه الرؤية فإن من مصلحته الشخصية ربما أن يسير خلفها لعله يكون هو «الفائز» بهذه الحرب حيث فشل سلفاه! ولكن من حق المعارضة التعبير عن استيائها. فكيف يمكن مبعوثاً دولياً أن يدعو طرفاً في الحرب عدّه «مهزوماً» إلى مفاوضات سليمة وجدية وعادلة؟ كأنه يدعو ببساطة إلى تقديم تنازلات. بالطبع لا يشكف دي ميستورا جديداً بدعوة هذه المعارضة إلى وحدة تبدو مستحيلة لأسباب تتعلق بمكوناتها، مثلما تتعلق أكثر برعاتها في الخارج. وهو يدرك مثلها السبب وراء تشتتها. كان حرياً به أن يتحدث عن التغيير الذي نادى به بيان جنيف الأول (حزيران/ يونيو 2012) بدل أن يركب عربة مشروع الكرملين الذي لم يفعل شيئاً منذ دفع قواته إلى الميدان سوى طي صفحة هذا البيان، والعمل على إعادة تأهيل النظام. ألا يقرأ ما يكتب عن محنة سورية التي هجر نصف سكانها إلى الداخل والخارج ودمرت مدنها ودساكرها فضلاً عن مئات ألوف الضحايا فيما الدول المسؤولة عن حماية المدنيين من بطش حكامهم لا ترى ولا تسمع!

صحيح أن المعارضة لم تربح الحرب، ولن تربحها في ظل موازين القوى الحالي. إذ لا تقتصر عناصر هذا الميزان على حركة الميدان فقط، بل في صلبها شبكة العلاقات التي ينسجها كل من المعارضة والنظام. الفصائل التي حملت السلاح بعيداً من «داعش» و «النصرة» توزعت مجموعات بالمئات بل بالآلاف، وهذا ما سهل على اللاعبين الخارجيين استقطابها ثم الإمساك بقرارها. ولا يصح بعد هذا أن تلومهم بالتخلي عنها. قوات «جبهة الجنوب» التي قارب عديدها أربعين ألفاً تمتعوا برعاية أردنية وعربية وأميركية. ولم يصدر عنهم في السنتين الأخيرتين أي حراك. لذلك لم يعد لها أي دور قتالي والزمن زمن إقامة مناطق خفض توتر، سوى اللحاق بالحرب على «تنظيم الدولة» إلى جانب «قوات سورية الديموقراطية» وقيادتها الكردية، أو المساهمة في توفير أسباب الهدنة… لعلها تنتظر دوراً في المستقبل كما كان حالها في الماضي القريب. بل إن قوات النظام هي التي تتقدم للإمساك بالحدود مع إسرائيل والأردن. وعمان تعمل على إعادة بناء العلاقات مع دمشق لأسباب كثيرة داخلية معروفة وخارجية أولها هذا التردد الأميركي من أيام إدارة الرئيس باراك أوباما، ثم إهمال خلفه دونالد ترامب الذي سلم الراية لروسيا، وأوقف برنامج المساعدات العسكرية والمالية عن الفصائل. همّ البيت الأبيض فقط هزيمة «داعش». فيما سياسته لتطويق نفوذ إيران لم يعد لها أي معنى ما دام أن النظام وحليفه الإيراني يتقدمان كل يوم لملء الفراغ الذي يخلفه تقلص جغرافيا المعارضة المعتدلة من جهة وتآكل خريطة «دولة الخلافة». ولا شك في أن استكمال تحرير دير الزور سيتيح لطهران تعزيز «طريقها» إلى ساحل المتوسط.

جميع الرعاة الإقليميين والدوليين للمعارضة يدعونها، كما فعل المبعوث الدولي إلى الواقعية، ويلحون على وفد موحد إلى مفاوضات جنيف قريباً. «الائتلاف الوطني» يبدو أعزل ومعزولاً لا حيلة له ولا قوة. ويتعذر على «الهيئة العليا للمفاوضات» أن تصل إلى تصور واحد مع «منصة القاهرة» و «منصة موسكو». وإذا كانت الأولى ترغب في تأجيل بند رحيل الرئيس بشار الأسد أو حرمانه من أي دور في «المرحلة الانتقالية»، فإن الثانية ترفض البحث في هذا البند نهائياً، وتتحرك تحت عباءة روسيا وتبع رغبتها في بقاء رأس النظام حتى نهاية ولايته في 2021 وتأكيد حقه في الترشح لأي انتخابات رئاسية مقبلة قبل هذا التاريخ أو بعده. ولا ترى حتى ضرورة لإقرار دستور جديد. بل تدعو إلى مواصلة العمل بالدستور الذي أقره النظام في 2012 إثر استفتاء عام مثير لم تشارك فيه المعارضة. وتدرك الهيئة أن رحيل الأسد لم يعد على أجندة أي من «أصدقاء الشعب السوري». الإدارة الأميركية لا يعنيها شيء سوى دحر «داعش». ومثلها أوروبا التي تقر بالعجز عن ردع النظام وإن استخدم الأسلحة المحرمة. وفي المقدمة فرنسا التي كرر وزير خارجيتها قبل أيام ما كان رئيسه ايمانويل ماكرون قاله من أشهر أن بلاده لا تضع رحيل الأسد شرطاً مسبقاً لإطلاق عملية سياسية وبدء المرحلة الانتقالية. ولا حاجة إلى تعداد المواقف التي تبدلت جذرياً منذ التدخل العسكري الروسي. ولعل أبرزها موقف تركيا التي لم يعد يعنيها شيء من الساحة السورية سوى حصار أو قتال الكرد ومنعهم من الفوز بحكم ذاتي. هذا الهاجس المقيم يدفعها كل يوم بعيداً من شبكة علاقاتها التاريخية القديمة مع الولايات المتحدة الداعم الرئيس للكرد. ويدفعها إلى تمتين تحالفها مع روسيا وإيران.

هذا ما يعرفه دي ميستورا عن وضع المعارضة. ويعرف أكثر أن النظام السوري لا يملك قراره وإن قدم إليه حليفاه انتصارات وأعادا سلطته إلى أراضٍ واسعة. فهو عاجز اليوم وغداً عن الحد من هيمنة روسيا وإيران. ويجب ألا يغيب عن باله كوسيط دولي أن ما يهم موسكو حالياً بالتفاهم مع اللاعبين الآخرين هو التهدئة ووقف الحرب، لأنها كما قال هو نفسه، تحتاج إلى استراتيجية خروج من هذا المستنقع. أما ما يشاع عن «وعودها» بإخراج كل الميليشيات الحليفة لإيران من سورية فيبقى مجرد آمال في الظروف الحالية. تغلغل طهران عميق في قطاعات أساسية في بلاد الشام، من الأمن إلى الاقتصاد والمجتمع والثروة الوطنية نفطاً وغير نفط. ولا يمكن قوة أخرى مواجهتها ما لم تتبدل خريطة التحالفات في الداخل والخارج، وما لم تستجب إدارة الرئيس ترامب دعوات أميركية داخلية إلى ترجمة سياسة مواجهة الجمهورية الإسلامية في سورية والمنطقة عموماً، حفاظاً على ما بقي من مصالح للولايات المتحدة في الإقليم.

صدق المبعوث الدولي. لم تربح المعارضة الحرب، لكنها ستبقى في ثنايا أي تسوية تتجاهل أسباب انفجار الأزمة منذ ست سنوات. خسرت الحرب إلى حين لكنها لم تخسر القضية. وكذلك النظام انتهى من سنوات، ولم ولن يربح، وإن أعلن الأسد قبل أيام أن علامات النصر واضحة في ظل تقدم المعارك. وصدقت نظرة المعارضة إلى دي ميستورا. فهو أيضاً فشل ولم ينجح بعد ثلاث سنوات. وأسباب فشله تكاد تكون هي نفسها أسباب فشلها: تخلي المجتمع الدولي عن سورية وشعبها وتقدم روسيا وإيران إلى ملء الفراغ الأميركي… وعوامل أخرى كثيرة.