تبحث الإرادات الدولية النافذة في الوضع السوري عن صيغ للحل تبتعد، وفقاً لما هو معلن، عن فكرة الدولة المركزية، لمصلحة تصدّر صيغاً من «الفدرلة» أو «اللامركزية الموسعة»، تستلهم، إلى حدود كبيرة، روح تجربة «التحاصّ الطوائفي» اللبناني.
أي أن تجربة «الدولة التسلطية» في سورية التي اعتقلت ممكنات الاندماج الوطني طيلة خمسة عقود، واشتغلت بعد قيام الثورة عام 2011 على تفكيك «الاجتماع الوطني» الرث أصلاً، واستقدام القسم المتأخر من «المجتمع السوري» بتعبيراته الفصائلية، لخنق القسم الأقل تأخراً بالتكامل موضوعياً مع نهجها الأمني الاستبدادي، تسيل حالياً باتجاه قيام نظام ينطوي على شكل من أشكال المحاصّة بين هويّات طائفية وإثنية، مقترباً من حيث المضمون من النموذج اللبناني. هذا فيما يعمد «حزب الله» داخل نظام المحاصّة الطائفي اللبناني إلى استلهام مضامين «الدولة التسلطية» في سورية، على خلفية تغيّر موازين القوى بين الطوائف اللبنانية، واحتكاره السلاح وقرارات السلم والحرب وتدخله العسكري في سورية، وانتفاخ دوره الإقليمي تحت الإشراف الإيراني. وهو يتّجه إلى تعميق انفصاله عن بقية الطوائف اللبنانية، وذلك بتعالي بنيته الأمنية / العسكرية وتضخمها وانفصالها عن «المجتمع اللبناني»، وتحوّلها إلى مصدر من مصادر استلاب اللبنانيين واغترابهم عن ذواتهم الإنسانية، فضلاً عن تحوّل الطوائف اللبنانية وتعبيراتها السياسية والاجتماعية إلى مجرد «أحزاب جبهة وطنية تقدمية» ملحقة طوعاً أو كرهاً بتلك «البنية الحزبية التسلطية»، وإحالة اعتراضات بعض الأطراف الداخلية اللبنانية على سياسات الحزب إلى مجال اللافاعلية واقعياً.
يشير هذا التحاكي في نتائج تجربتين مختلفتين طيلة عقود إلى تماثل في الماهية العُليا الحاكمة على مجريات الحياة الظاهرية التي تبدو مختلفة بينهما، ويقف تشابه الماهية تلك في خلفية تحول «نظام تسلطي» مغرق في المركزية والشمولية، بعد خمسين عاماً من التسلط، إلى تلمس شكل من أشكال التحاصّ الطائفي والإثني بعد انهيار «الاجتماع السوري»، الذي كان موضوعاً للاستبداد، ويقف أيضاً في خلفية ذاك النهج التسلطي السافر، الذي يستطرد «حزب الله» في فرضه على اللبنانيين، بعد سبعين عاماً من تجربة المحاصّة الطائفية، التي تسيل أيضاً باتجاه مقاربة النموذج التسلطي السوري.
ومن معاني تحاكي نتائج التجربتين أيضاً:
أولاً، انشغال الرأي العام في كلا البلدين طوال عقود بمسائل ذات طابع أيديولوجي، ما فوق وطنية أو ما دون وطنية، أدخلت «المجتمعين» في صراعات دافعة باتجاه انحداري معرفياً وأخلاقياً وثقافياً ومجتمعياً، فيما ظلت التناقضات الدافعة باتجاه التقدم التاريخي مركونة على الهوامش، كالتناقض بين الهويّة والحرية، أو بين الحداثة والـتأخر، حيث حجبها ضجيج اجترار الكلام الفاقد المعنى.
ثانياً، عمّم النظام السوري خلال اجتياحه لبنان أدلوجة «شعب واحد في دولتين»، كما يعمّم «حزب الله» حالياً أدلوجة «دخلنا إلى سورية لكي نحمي ظهر المقاومة». وفي مواجهة هذا الخلط الرديء في وصل البلدين القائم على مصالح فئوية وهوويّة، ينبغي تأكيد الفصل بين «الشعبين والمجتمعين والدولتين» من أجل وصل قائم على مبدأ الحرية. فالسوريون واللبنانيون شعبان مختلفان في دولتين مختلفتين، لكن قضاياهما المستقبلية المتصلة بتحررهما من الهويّات والتأخر هي قضايا مشتركة ومتصلة وواحدة، فهما «شعبان مختلفان وقضاياهما واحدة»، ويحتاجان إلى الحرية والديموقراطية والعلمانية والأمويّة (من أمّة) وإلى إقامة الحد على «أدلوجة المقاومة» وتفكيكها منطقياً وأخلاقياً ووطنياً، ويحتاجان أيضاً إلى نمو في حيثية الكلي في مواجهة تسلطن الفئوي والجزئي، وإلى الفكر الذي يرفع لواء الكليات، (إنسان، مساواة، عدالة، حرية، قانون، دولة، أمة، شعب…)، في مواجهة التخلّع المجتمعي و «الخلاعة الأيديولوجية».
ثالثاً، استقدمت التجربتان إلى بلديهما مختلف أنواع التدخلات الخارجية، بدوافع المصالح الحصرية المتعارضة مع المصلحة الوطنية العمومية، وبالتالي ساهمتا في انحدار البلدين إلى حضيض البلد- الساحة، فغدت سورية كلبنان ساحة صراع قوى دولية وإقليمية، وتراكبت تلك الصراعات مع الانقسامات المجتمعية الداخلية، فأصبح الخروج من هذا الحضيض مهمة تاريخية مشتركة بين الاستقلاليين اللبنانيين والسوريين.
رابعاً، إن التهديد الذي وجهته أوساط «حزب الله» إلى المثقفين اللبنانيين الذين وقّعوا مؤخراً على بيان التضامن مع اللاجئين السوريين في لبنان، يعيدنا بالذاكرة إلى إعلان «بيروت – دمشق» الذي وقّع عليه مثقفون لبنانيون وسوريون، وقامت السلطات السورية حينذاك باعتقال عدد من الموقّعين، وفصل عدد آخر من وظائفهم. وهذا يدلّل على أن قوى الاستبداد والتأخر في البلدين تعمل في اتجاه واحد، وقوى الحرية والحداثة تعمل في اتجاه معاكس وواحد أيضاً.
بكلام مختصر: إن هاتين التجربتين، على رغم اختلافهما ظاهرياً، قامتا على مبدأ الهوية غلبةً أو محاصّةً، وجرّتا كلا البلدين إلى نتائج متهاوية في كارثيتها، ولم يعد ممكناً إيقاف مسارات الانحدار الراهنة التي تعصف بأسس الحياة الآدمية في البلدين، إلا بالخروج مبدئياً ونهائياَ من سجون الهويّات إلى رحاب الحرية المرتبطة بفكرة الماهية الإنسانية كماهية كلية حاكمة على كل الانتماءات الأخرى.